عادت موجة الاحتجاجات للمطالبة بالديمقراطية من جديد في عدد من البلدان العربية، واختلطت معها في بعض الأحيان المطالب الاجتماعية، ولكن بقيت المطالب السياسية في مقدمة هذه الشعارات المرفوعة، بالرغم من الأهمية البالغة للمطالب الاجتماعية. وعليه، لا مناص من التأكيد، وبوضوح، بأن الديمقراطية أصبحت مطلباً اجتماعياً وسياسياً وإنسانياً لا مجال لتفاديه او التهرب منه او التحايل عليه. ولذلك فمن حق الناس التشبث بها في جميع الأحوال والعمل على تكريسها، لأنها الخيار الوحيد في الحاضر والمستقبل. وهي بالتالي نتيجة مباشرة لحاجات داخلية إنسانية بالدرجة الأولى، بغض النظر عن دور العامل الخارجي ومدى تأثيره في هذا الأمر. كما أن التغيير الديمقراطي أصبح أمراً مهماً في سياق سلمي وقانوني هادئ وعقلاني، لا يفضي إلى إرباك المجتمع أو الوقوع في سيناريوهات عنيفة لا قدر الله. ولذلك فإنه، ومن دون اعتماد جدي وحاسم لهذا الخيار كحتمية لا مناص منها، وكأسلوب متطور لإدارة الشأن السياسي، سوف نجد أنفسنا كعرب على هامش التاريخ أو خارجه تماماً على الأرجح. ومن دونه سوف تشهد البلدان العربية المزيد من الانفجارات الاجتماعية السياسية وعدم الاستقرار، وربما حتى الحروب الطائفية والعرقية لا قدر الله. وتفادياً للوقوع في مثل هذه الكارثة التي حدثت في عدد من بلداننا العربية، وأدت إلى حروب أهلية، يجب على النخب الفكرية والسياسية وقوى المجتمع المدني العمل على إنجاح الديمقراطية وترسيخها، فكراً وممارسةً، بإعادة توزيع الأدوار في اتجاه دعم الشراكات، وبناء أنواع من الرقابة الداخلية، وبناء آليات للإصلاح والمحاسبة لتحقيق أهداف الشراكة الوطنية في دولة العدل والحرية والمساواة. ولكن هذا الأمر قد يبدو غير واقعي في ظل بعض الأوضاع العربية الحالية في عدد من أرجاء الوطن العربي. وفي ظل ما تشهده بعض هذه البلدان من ديمومة الاستبداد، على صعيد الإدارة السياسية، والعجز عن تحقيق التحول الديمقراطي، يندفع بعض اليائسين من تحقيق هذه الأهداف وراء الحملات والتكتيكات الخارجية التي لها أهدافها الخاصة. ما يفضي في الغالب إلى التبعية وخدمة أجندات خارجية، من خلال الاستنتاج والتبعية المفضيين إلى التدخل الخارجي وما له من تأثير دراماتيكي في الغالب (الحالات: العراقية السورية - الليبية - الفنزويلية على سبيل المثال فقط). كما شهدنا مثل هذا المنطق الأعرج في أفريقيا قبل عدة سنوات عندما انبرى بعض السياسيين في بعض الدول الأفريقية الفقيرة إلى الدعوة صراحة إلى المطالبة بعودة الاحتلال (هكذا!!). ومن المؤسف أن يتم - خاصة بعد تجربة احتلال العراق ومن قبلها أفغانستان - التسويق لنفس المنطق اليائس، والذي قد ينتهي بالتدخل الفج، والادّعاء بأنه قد تمّ تحقيق التحول الديمقراطي الذي يتم اختزاله في الانتخابات التي تنفذ برعاية المتدخلين الضاغطين أو الرعاة... ومع أن المثالين العراقي والأفغاني اللذين يتم التمثيل بهما على هذا المستوى من الادعاء الديمقراطي، يجسدان بشكل واضح الفشل الصارخ للتدخل الخارجي على هذا الصعيد وعلى غيره من الصعد الأخرى، حيث ان الوضع السياسي يتطوّر بصورة خطيرة لجهة التجاذب المتصاعد بين الأعراق والانتماءات الدينية والطائفية، ويكفي القول في هذا السياق أن مشهد الفوضى الذي سبق أن غرق فيه العراق، وما تزال كل من أفغانستان وليبيا وسوريا غارقة فيه إلى اليوم، يحطُّ من شأن فكرة الديمقراطية نفسها في نظر الشعوب الموعودة بها، ويجعل من ثمنها عالياً جداً من الدم والنار. فلا أحد على الإطلاق يمكن أن يقبل بشرعية الاحتلال كوسيلة للتغيير الديمقراطي في العالمين العربي والإسلامي، هذا فضلاً عن أن الادّعاءات التي ترفعها الإدارات الأمريكية فيما يتعلق بنشر الديمقراطية في المنطقة العربية، بالعنف او بالسياسة هي ادعاءات لا يوجد على الأرض ما يعززها في السياسة وفي المواقف الأمريكية تجاه البلدان العربية. وعليه فليس أمام العرب، إلا التركيز على المنظور الوطني والقومي للديمقراطية التي تنطلق من التوافق الداخلي والشراكة الوطنية لبناء نموذجنا الخاص للديمقراطية بالاستناد إلى الإرادة الوطنية، وليس إلى القوى الخارجية، وذلك لأن الدخول الخارجي على الخط الديمقراطي - في ظل الممارسات المفارقة للقيم الديمقراطية نفسها - قد أسهم ويسهم في التشويش على هذه القيم ويحيطها بظلال الشبهات والشك. الكتابة خارج بهرج المسؤولية ظاهرة كتابة المذكرات الشخصية لكبار الزعماء والساسة ورؤساء الأحزاب والفنانين في العالمين المتقدم والمتخلف على حد سواء، تغزو العالم منذ سنين طويلة، هذه الظاهرة توقفت حائرة عاجزة عند أبواب بلاد العرب. فكم من مسؤول عربي - رحل أو رُحل، انعزل أو عزل - وأقدم على كتابة مذكراته على سبيل المثال؟!! قارنوا ذلك بما يحدث في بلدان العالم الحر. بل قارنوه بما حدث ويحدث حتى في بلدان أفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية فقط. أما العرب فيبدو أنهم لا يجيدون الكتابة خارج بهرج المسؤولية وغطائها وحصاناتها المختلفة. المشكلة أننا ننتمي إلى دائرة ترفض الجلوس أمام المرآة، دائرة مصابة بضعف البصر وبضعف الإيمان بأن لكل إنسان ملامح خاصة، ورذائل خاصة، وسقطات وإنجازات، وأن لكل إنسان تجربة في الضعف الإنساني، يجب أن يطلع عليها العالم، ويستفيد منها الآخرون. إننا نبدو كشعوب تعيش في دائرة تحتقر التاريخ والناس والرأي العام، ما يدفع الرأي العام إلى اللجوء إلى كواليس الإشاعة وتأليف الأقاويل الفارغة والكتابة على الجدران، وغيرها من الوسائل التي تهرب من خلالها الأفكار والمواقف والآراء، والتي لا تهتم إلا بالجزء الخاص بالرذائل الخاصة. إن الاستثناءات النادرة التي صاغت شبه مذكرات في تاريخ العرب، فعلت ذلك بحذر شديد، وبلغات أجنبية في الغالب (حتى لا يقرأها أغلب القراء العرب)، ربما بسبب الاستلاب أو بسبب الخوف من اطلاع الجمهور الواسع عليها، ولكن النتيجة في الأخير واحدة، وهي إخفاء الحقائق والخوف من الجلوس أمام المرآة.
مشاركة :