انفضت قمة بيروت الاقتصادية العربية مؤخرًا، ولم تكن هناك آمال كبيرة معلَّقة على هذه القمة، وكيف تكون هناك آمال معلقة والأوصال تكاد تكون متقطعة بين أقطار العالم العربي، وأصبح الكثير منها مشغولاً بهمومه الداخلية، بل إن الأزمة احتدمت في بعضها، وخرجت من الإطار العربي إلى الإطار الدولي، وليس هناك في الأفق ما يشير إلى انفراجة قريبة، ويكاد العالم العربي يدخل فيما يمكن تسميته عقد التنمية الضائع، ذلك العقد من 2011 إلى الآن. يختلف الوضع كثيرًا غداة قمة الكويت الاقتصادية 2009. حين طرح أمير الكويت الشيخ «صباح الأحمد الجابر الصباح» أول مبادرة تنموية عربية، تمثلت في إنشاء صندوق عربي لدعم وتمويل المشروعات التنموية برأس مال مليار دولار، تسهم فيه الكويت وحدها بـ500 مليون دولار، يستهدف الارتقاء بمستوى معيشة المواطن العربي، ويعطي الأولوية للمشروعات العربية المشتركة، ويمنح مزيدًا من الفرص للقطاع الخاص والمجتمع المدني للمشاركة في عملية التنمية الشاملة، وحينها كان العالم العربي متحمسًا لإنجاز الاتحاد الجمركي، بعد أن أنجز منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وسمي العقد الثاني من الألفية الجديدة «عقد التشغيل العربي» لاستيعاب الشباب العربي في فرص العمل العربية، ولكن مياهًا كثيرة قد جرت في النهر، حيث استهل العالم العربي هذا العقد بالأزمة التي يعاني آلامها إلى الآن. تلك الأزمة التي تُعرف إعلاميًّا بالربيع العربي، وهي تسمية مستوردة، ككثير من العبارات والسلع والخدمات التي نتداولها في عالمنا العربي، أُطلقت على الاضطرابات التي حدثت في بعض البلاد العربية في مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة، لم تكن صناعة محلية، وإن استُخدمت فيها العناصر والأجواء المحلية، وعلى الرغم من أن البداية الظاهرة كانت من تونس وأعقبتها مصر، ثم سرت كسريان النار في الهشيم إلى ليبيا وسوريا واليمن والأردن، إلا أن البداية الحقيقية كانت من العراق بالحرب عليه في 2003 ثم إطلاق الطائفية التي مزقت تلك الدولة وأفشلتها، وفرقتها عن حضنها العربي. وكان الهدف من صناعة هذه الأزمة هو إسقاط الدولة المركزية، وكما تحدثت سيئة الذكر كوندليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية في 2006. أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان عن شرق أوسط جديد، فقد بات من الواضح أن تلك العملية تعيد هيكلة أقطار العالم العربي، بإعادة تقسيمها وفقًا للانتماءات الأولية السائدة فيها، ذلك لأن التقسيم الذي توافقت عليه بعض الدول قديما، أبرزها «بريطانيا وفرنسا» التي كانت تهيمن على المنطقة، وتم تقنينه في اتفاقيات سايكس بيكو أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، لم يفلح في إنشاء دول قومية على الغرار الغربي، تذوب فيها التقسيمات العرقية والدينية والمذهبية في الدولة الوطنية. وقد استغلت هذه العملية أوضاعًا داخلية، يمكن حلها بالحوار، فيما لو لم تكن هناك أغراض أخرى، وراحت تدرب -كما ظهر بعد ذلك من التحقيقات- عناصر من أبناء هذه البلدان على كيفية تهييج الأوضاع وإشعال الحركات الاحتجاجية، فكان ما كان من أحداث عايشها الجميع ويعرفونها. وفيما تمكنت تونس ومصر والأردن من سرعة الخروج من هذا الوضع المتأزم، إلا أن العناصر التي أوقدت هذه الأزمة، لم تتركها وشأنها، فإذا بها جماعات إرهابية تتمدد وتمارس عملياتها الإرهابية في هذه البلاد، وتستقوي بقوى خارجية، حتى كان الانقسام في البيت الخليجي (مجلس التعاون)، فيما امتد الأجل الزمني للأزمة في سوريا واليمن وليبيا، وأصبحت واقعًا مستعصيا على الحل، ومسرحًا للتنافس والصراعات بين قوى إقليمية ودولية، وبات الخراب والدمار هو الصورة المهيمنة على المشهد في هذه البلاد، التي لم تصبح دولها فقط دولا فاشلة، ولكنها باتت مصدر إزعاج للمجتمع الدولي، بموجات الهجرة التي تصدرها إليه. حتى السودان، الذي كانت الآمال العربية معلقة عليه كسلة غذاء الوطن العربي، لم تتركه هذه العناصر في حاله، وهي تسعى من وقت مبكر إلى تقسيمه، ولكن يبدو أنها لم تقتنع بانفصال جنوب السودان عنه، لذا تسعى إلى مزيد من التقسيم، ويبدو أن ما يشهده حاليا من اضطرابات يرسم نفس الصورة التي كانت في البلاد المذكورة في 2011. وفي عملية إعادة الهيكلة، التي يمكن أن تكون عنوانا لعملية صناعة هذه الأزمة، وجدت القوى الإقليمية، ذات الارتباطات الثقافية والتاريخية بدولها، فرصتها للتمدد، كما وجدت قوى دولية متنافسة عالميًّا، فرصتها لإحراز مكاسب في هذا التنافس، فإيران بعد أن غدت هي صاحبة النفوذ الأكبر في العراق بعد إطلاق الطائفية في 2003. نجدها تتمدد في سوريا، ليس فقط بالنفوذ السياسي والدعم الاقتصادي، ولكن بالقوة المسلحة عبر الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني المدعوم منها، وتصنع من وجودها في سوريا رقمًا مهمًّا، لا يمكن تسوية الأزمة من دونه، وبالطبع لن تكون هذه التسوية من دون ثمن، ومن سوريا يتمدد وجود إيران إلى لبنان، أيضًا عبر البوابتين الطائفية والاقتصادية، وعبر بوابة حزب الله اللبناني، حتى صار تشكيل الحكومة اللبنانية معضلة لا تحل إلا بهذا الحزب، وقد كانت إيران أيضًا ضالعة في أحداث الأزمة في البحرين وشرق السعودية، وقدمت لعناصر التخريب والتأزيم كل صور الدعم، وتحالفت مع الحوثيين في اليمن، وأوصلتهم إلى الحكم والسيطرة على البلاد، فضلا عن تمكينهم من الاعتداء بصواريخها على السعودية التي غدت تقود تحالفًا عربيًّا وإسلاميًّا لإعادة الشرعية إلى اليمن. وفي فترة حكم الإخوان في مصر سعت إيران إلى تحسين صورتها، مستغلة سوء الأوضاع الاقتصادية لتشجيع السياحة الإيرانية لمصر. وكما أيقظت أوضاع العالم العربي المتأزم حلم الإمبراطورية الفارسية لدى طهران، فقد أيقظت أيضًا لدى تركيا حلم العودة إلى الشرق أو العثمانية الجديدة، متقمصة صورة الإسلام المعتدل في وجه التطرف، فكانت تركيا هي الأشد ابتهاجًا بفوز الإخوان المسلمين بالسلطة في مصر، وقدمت لها أثناء فترة حكم الإخوان مساعدات اقتصادية في صورة وديعة في البنك المركزي المصري بمبلغ ملياري دولار، وزار رئيسها مصر، كما تمددت تركيا أيضًا بقواتها في شمال سوريا وفي شمال العراق، مستغلة القضية الكردية، وقدمت دعمًا لمليشيات إسلامية في ليبيا، ما عزز معاندة هذه المليشيات لكل محاولات الوفاق التي جرت بين الأطراف المتصارعة على الأرض الليبية. وفيما أصبح الوجود الإيراني في سوريا مدعاة لشن غارات إسرائيلية عليها، فقد أصبح أيضًا مدعاة للوجود التركي والروسي والأمريكي والفرنسي، ما يضاعف من تعقيدات الأزمة السورية، حيث لم يعد خروج سوريا من مأزقها أمرًا محليًّا أو حتى عربيًّا، بل أصبح يتطلب توافقًا دوليًّا بعيد المنال، وكما تتنافس هذه القوى الإقليمية والدولية في سوريا، نجد التنافس أيضًا بين إيطاليا وفرنسا على الساحة الليبية، فإيطاليا ترى أنها الأولى بالنفوذ، حيث تستورد 48% من احتياجاتها النفطية، و40% من احتياجاتها من الغاز من ليبيا، أما فرنسا فترى أنها صاحبة النفوذ القديم على جنوب ليبيا، وتربطها بمصالحها في تشاد ووسط إفريقيا. وفي هذه الحالات الثلاث: سوريا، واليمن، وليبيا، هل نستطيع الحديث عن دولة قائمة لها تمثيل في المنظمات الإقليمية والدولية، تستطيع أن تأخذ قرارًا وتنفذه؟ منْ الذي يمثل تلك الدولة في هذه المنظمات؟ وما الموارد التي تقع تحت سيطرته؟ وهل له سيطرة على حدوده، حتى لا تكون مصدرًا لتهديد دول الجوار والدول البعيدة أيضا؟ فـليبيا مثلا هي أحد أهم محطات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وأحد أهم محطات تسلل الإرهابيين إلى مصر وتونس والجزائر. وسوريا تمثل المصدر الرئيسي للجوء والنزوح إلى الأردن ولبنان وتركيا، بل دول الخليج العربية ومصر وأوروبا. واليمن الذي جعله موقعه مستقبِلاً لهجرات إفريقية، غدا بفعل الممارسات الحوثية مصدرًا كبيرًا للهجرة والنزوح العكسيين. وانطلاقا من مسؤوليتها القومية استدعت المملكة العربية السعودية البيت الخليجي، بعد أن أطفأت الأزمة في شرقها، لإطفاء الأزمة في البحرين وعُمان، ودعمهما اقتصاديا، ومد يد العون لتونس ومصر، وأيضًا للبلدان العربية المضيفة للاجئين والنازحين السوريين خاصة الأردن ولبنان. ولسرعة استعادة مصر دورها العربي، وتعافيها اقتصاديًّا، حتى تكون قادرة على الفعل، عملت السعودية متعاونة مع الإمارات والكويت، على دعم مصر بنحو 29 مليار دولار مساعدات اقتصادية خليجية، على رأسها المساعدات السعودية، التي قدمت أيضًا في 2015 دعم احتياجات مصر من الوقود مدة 5 سنوات، واستهدفت رفع استثماراتها في مصر إلى 30 مليار دولار، ولم يقف الأمر عند دور الحكومة في المملكة العربية السعودية، ولكن القيادة السعودية أوعزت إلى القطاع الخاص لديها أن يضاعف من استثماراته في البلاد العربية، خاصة تلك الاستثمارات التي توفر مزيدًا من فرص العمل للشباب، لاحتواء الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تستغلها عناصر التخريب والتأزيم في الإثارة، وهو نفس النهج الذي استخدمته حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت، حتى أصبحت استثمارات القطاع الخاص في تلك الدول تقف على رأس قائمة المستثمرين. لقد مكّن الموقف الخليجي الذي قادته السعودية مصر من استعادة الدولة وتعافيها، ووقوفها على قدميها، واستهلالها لمشروع ضخم للإصلاح الاقتصادي، وإعادة تأهيل بنيتها التحتية، ومعالجة المشاكل المتراكمة من سنوات، واحتواء الأسباب التي استغلتها عناصر التأزيم في 2011. فضلاً عن نشاط الدور المصري الإقليمي، لسرعة ملء الفراغ الناتج عن غيابها عنه، وأصبح هناك تحالف يتنامى بين مصر والسعودية والإمارات والبحرين، شكّله الموقف المشترك لهذه الدول ضد الإرهاب وصانعيه، وضد عناصر التخريب والتأزيم التي خلقت تلك الحالة التي عاشها العالم العربي من 2011. وأصبح هذا التحالف هو المعوَّل عليه في خروج العالم العربي منها، وإذا كان الموقف القطري من عناصر التخريب والتأزيم هو السبب المباشر لقيام هذا التحالف، فإن المشروع الضخم هو لاستعادة العالم العربي وضع الاستقرار الذي كان عليه قبل الأزمة، وإلى أجواء القمة الاقتصادية العربية في الكويت 2009 التي تظل المشروع الرئيسي لهذا التحالف.
مشاركة :