تصور أنك وزوجتك وأطفالك والأسرة كلها بدأتم موسم الإجازات فأعددتم العُدة ليلاً للذهاب في الصباح الباكر إلى رحلة خارجية إلى أحد المتنزهات أو إلى حديقة عامة، فنُمتم جميعًا عند انكشاف الساعات الأولى من الليل للاستيقاظ في أول النهار شوقًا إلى هذه الرحلة، ثم عند قيامكم من النوم إذا بالغيوم السوداء تملأ السماء والأمطار الغزيرة بدأت تنهمر فتغطي الشوارع والطرقات، فماذا سيكون شعورك أنت وباقي أفراد العائلة؟ لا شك أنه سيكون هناك شعور عام بخيبة الأمل والإحباط الشديدين، وسيخيم الحزن على العائلة برمتها، وسيبقى الجميع في ذلك اليوم في حالة من التعاسة وعدم الارتياح، وسيسيطر المزاج العكر على أفراد الأسرة صغيرهم وكبيرهم، وسيتفاقم هذا الحزن ويزيد الألم عندما يعلم الجميع أن هذا الجو الممطر المنهمر ستصحبه ريح صرصر عاتية وغبار كثيف شديد يجعل الرؤية منعدمة عدة أيام فتمنع الناس من الاستمتاع بالبيئة الخارجية والذهاب بعيدًا عن منازلهم للترويح والتسلية. فهذا الشعور بعدم السعادة وتغير وتعكر المزاج عندما تكون الأجواء غير مناسبة للسفر، أو للخروج إلى المتنزهات والحدائق وممارسة الرياضة في البيئات الخارجية، سيظلل الناس في حالاتٍ أخرى تكون أشد وطأة وتنكيلاً بالوضع النفسي والإحساس الشعوري للبشر، وخاصة عندما تكون هذه الحالة مهلكة للصحة الجسدية ومفسدة لأعضاء البَدن. فتخيل الآن معي المشهد الجديد الذي يمنعك من الاستمتاع بإجازتك ويمنعك من الخروج من منزلك أنت وباقي أفراد عائلتك ويجعلك سجينًا محبوس البيت ربما لأيام وساعات طويلة، فهذا المشهد يُطلق عليه تلوث الهواء، وتحديدا الضباب الضوئي الكيماوي الذي ينزل على المدن بين الحين والآخر عندما تتزايد مستويات تلوث الهواء وتتفاقم فتؤدي إلى اختناق الناس الذين يخرجون من منازلهم، وخاصة الأطفال وكبار السن والمرضى، ويصابون بحالات مرضية حادة في الجهاز التنفسي والقلب. وعندما يزور هذا الضيف الثقيل القاتل المدن تصرخ وسائل الإعلام محذرة الناس من الخروج من منازلهم أو ممارسة الرياضة في البيئات الخارجية. فمثل هذا المشهد المتعلق بتلوث الهواء الجوي لا شك أنه يزيد من تعاستك وقلقك النفسي ويعكر مزاجك ولا يجعلك سعيدًا في ذلك اليوم والأيام القادمة التي تكون فيها قابعًا في منزلك مع أطفالك. وقد قامتْ دراسة منشورة في 22 يناير من العام الحالي في مجلة «طبيعة سلوكيات الإنسان» (Nature Human Behavior)، بسبر غور هذه الظاهرة للتعرف على العلاقة بين تلوث الهواء في البيئات الخارجية وشعور الإنسان بالهم والغم والحزن والتعاسة، أو ما يعرف بمقياس السعادة. فقد أَجرتْ الدراسة تحليلاً علميا كميا لمرئيات واستجابات 210 ملايين صيني يعيشون في 144 مدينة نشروا تغريداتهم في تويتر حول وضع الهواء في هذه المدن وشعورهم بالحزن والكآبة تجاه هذه الحالة المتدهورة لصحة الهواء الجوي. فهذه التغريدات استُخدمتْ علميا كأداة موضوعية تقيس سعادة الناس ودرجة رضاهم عن حالة الهواء في مدنهم ومدى تأثرهم نفسيا وسلوكيا مع استمرار حالة تدهور الهواء الجوي وتحذيرهم من الخروج من المنزل. وقد تمخضت عن الدراسة عدة استنتاجات مهمة منها كُلما زادت نسبة التلوث بالدخان والجسيمات الدقيقة وانكشفت السُحب المرضية في سماء المدن وجثمت على صدور الناس، انخفضت مع الوقت سعادة الناس وتدهور شعورهم النفسي، وارتفعت تعاستهم، وزاد حزنهم، وتعكر مزاجهم، كما أنه كلما أعلنت الحكومة نزول الضباب السام على المدن وحذَّرت الناس من الخروج انخفض مؤشر السعادة عند السكان وزاد حزنهم وشعورهم بالتعاسة والكآبة. فهذه الدراسة تُضيف عاملاً جديدًا وحديثًا إلى العوامل التقليدية المعروفة منذ قرون حول مقياس السعادة والعوامل التي تجعل الإنسان سعيدًا مُنفتح الصدر وصافي المزاج. فالعوامل التي تجعل الإنسان سعيدًا في حياته تختلف من إنسان إلى آخر، فمن الناس من يسعد بالمال والأولاد والأنعام الكثيرة، ومنهم من يسعد عند ممارسة الرياضة والسفر والتنزه في الحدائق والأجواء الطبيعية، ومنهم من يسعد عند مساعدة الناس وقضاء حوائجهم، والإنسان المسلم المؤمن بالله وقضائه وقدره فهو دائمًا يشعر بالسعادة والرضا، فإذا أصابته ضراء صبر واحتسب فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر وحمد الله فكان خيرًا له. فكل هذه العوامل السابقة الذكر لم تُدخل في الحسبان عامل البيئة وسلامة صحتها وجودة مكوناتها الحية وغير الحية من هواء وماء وتربة وعلاقة هذا العامل الجديد بشعور الإنسان بالغبطة والسرور والأمان النفسي والإحساس بالسعادة، فمع تعاظم حالات تلوث البيئة وتكرار وقوعها وتأثيراتها المباشرة والعصيبة على صحة الإنسان وممارساته اليومية وحياته المعيشية، دخل عامل تلوث البيئة قويا ومشهودًا وفرض نفسه كبعدٍ جديد يؤثر على مقياس السعادة والراحة الجسدية والنفسية لبني البشر. ولذلك فالدول والحكومات التي تبحث عن سعادة شعوبها، وتعمل على راحتهم النفسية والجسدية، عليها أن تسعى إلى فتح جميع أبواب سعادة القلب والجسد، ومنها أن تعمل بجد على توفير البيئة الصحية والآمنة للمواطنين من خلال الحد من كل المصادر التي تُفسد مكونات البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة، وتبذل كل ما في وسعها لحماية الأمن الصحي وإبعاد جميع أنواع وأشكال الملوثات عن الناس.
مشاركة :