خطيب الحرم المكي: ينبغي على العلماء والدعاة تأمل هذه القاعدة الربانية

  • 3/8/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، المسلمين بتقوى الله عز وجل. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: إن من القواعد الأصيلة التي ينبغي فهمها ومراعاتها والمبادئ الأساسية التي يحتاج العبد لذكرها: أن ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يفنى؛ فكل شيء كان لله فحقيق بالقبول وله النماء والبقاء، وما عدا ذلك فهو ذاهب وزائل لا محالة، ولنا في قصة ابنيْ آدم عبرة وعظة قال تعالى: {واتل عليهم نبأ ابنيْ آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين} فلما كان هابيل متقيًا لله مقربًا قربانه لله ومخلصًا له فيه، تقبله الله منه، ولم يتقبل من قابيل الذي لم يكن تقيًّا. وأضاف: لما دعا المؤمنون ذوو الألباب ربهم بما وصف من أدعيتهم التي دعوه بها عقّب الله على ذلك بقوله: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا من عند الله والله عنده حسن الثواب}؛ فلا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفي كل عامل عمله، وسيجازي المؤمنين خير الجزاء على ما عملوا وأبلوا في الله وفي سبيله. وأردف: على الضد من ذلك فمن لم تكن له نية صالحة وكان عمله لغير الله، بل كان يريد بعمله وسعيه ونيته الدنيا، لم ينفعه ذلك، قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا}، وهكذا كل ما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم، وفي التنزيل: {فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد، فأُتِيَ به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار.. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن؛ فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارىء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار.. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقى في النار، فهم عملوا في الظاهر أعمالًا صالحة؛ لكن لما فقدوا الإخلاص ولم يقصدوا بها وجه الله وطلبوا محمدة الناس عليها؛ ضل سعيهم وخاب رجاؤهم. وأشار "غزاوي" إلى أن هذا المبدأ العظيم (ما كان لله يبقى وما كان لغيره يفنى) ينتظم صورًا متعددة؛ فمن ذلك العبادات؛ إذ يجب أن يكون العمل لله ويبتغى به وجهه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)؛ لافتًا النظر إلى أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثلًا للمرائي بأعماله الذي ينفق النفقة رئاء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فكانت النتيجة أن حبطت أعماله وذهب ثواب نفقته، وورد على الله يوم القيامة بلا حسنات. وأكد أن الإخلاص شرط قبول الأعمال، وأيضًا من أخلص طاعاته لوجه الله طالبًا منه الأجر والثواب لا لطلب سمعة ورياء؛ فإنه يكمل إيمانه؛ حيث صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله؛ فقد استكمل إيمانه) "من أعطى لله" أي أنفق من زكاة ونفقة وكفارة وصدقة وهدية لا يريد بها إلا وجه الله عز وجل، "ومنع لله" أي: وأمسك وامتنع عن إنفاق ماله في غير ما أمر به الله عز وجل، وكان إمساكه طلبًا لرضا الله وليس منعًا لهوى في نفسه مع الشح والبخل، "وأحب لله وأبغض لله" أي: أحب وأبغض بما يقرب من طاعة الله، فيخرج حظ النفس من الحب والكره للغير، إلا بما يرضي الله عز وجل، "وأنكح لله" أي: كان زواجه وتزويجه لأبنائه وبناته أو من يلي أمرهم، وفق ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم متقربًا بذلك إلى الله تعالى؛ "فقد استكمل إيمانه" أي: من جعل حياته كلها لله كان جزاؤه أنه كمل إيمانه. وقال "غزاوي": إن المؤمن مع إخلاصه عمله لله فإنه يسعى جاهدًا لأن يخلف أثرًا حسنًا يبقى نفعه بعد موته، وألا يترك أثرًا سيئًا يلحقه إثمه بعد مفارقته الحياة، قال عز من قائل: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم}، قال السعدي رحمه الله: "وآثارهم" وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم؛ فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدًا أو محلًا من المحلات التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك؛ فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر "فكم من أناس كتب الله لهم القبول وخلد ذكرهم وبقيت آثارهم، وكم من أناس بادوا وهلكوا وصاروا أحاديث وعبرةً للمعتبرين، وأن الملاحظ أن الذين رفع الله ذكرهم، وبقي ثناء الناس عليهم بعد مماتهم؛ هم أهل الإخلاص والزهد في الشهرة والذكر. وأضاف أن أهل الإخلاص والصدق من هذه الأمة من أهل السنة والجماعة، هم من أعلى الله شأنهم وأبقى ذكرهم بين الناس؛ كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن المبارك والبخاري ومسلم وابن تيمية وابن القيم وغيرهم كثير، رحمهم الله. وأوضح أن من بركة العمل لله أن يبقى نفع ما يعمله المرء ويظهر أثر ذلك في واقع الناس، ولكم أن تتأملوا في تلك الآثار المباركة لدعوة الأنبياء التي قصد بها وجه الله، وأثمرت ثمارًا يانعة وكذلك دعوة الأئمة المصلحين والهداة المهتدين من بعدهم، وكم تفيأ الناس ظلالها وارتووا من معينها العذب. وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: من سنن الله الماضية؛ مكافأة صانعي المعروف وفاعلي الخير إلى الخلق بأفضل مما صنعوا، ومن إكرام الله لهم أن يبقى نفع أعمال البر التي عملوها في حياتهم وأثرها الحميد بعد مماتهم، فالخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى بئر رومة فجعلها وقفًا عامًّا للناس كافة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده من العصور، ومن بركة هذا الوقف أنه ما زالت عين البئر قائمة حتى اليوم، وهو من أشهر المعالم الوقفية التي بقيت عبر العصور الإسلامية وكذلك زبيدة زوجة هارون الرشيد رحمها الله لما أدركت أثناء حجها ما يعانيه الحجاج جراء حصولهم على الماء من تعب وإرهاق ومشقة، أمرت بإجراء عين سميت باسمها "عين زبيدة" وهي عين عذبة الماء غزيرة وهي إحدى روائع أوقاف المسلمين، وكانت إلى عهد قريب يصل سقياها لبيوت أهل مكة، ولما ألف الإمام مالك رحمه الله موطأه قيل له ما الفائدة في تصنيفك؟ فقال: "ما كان لله بقي" ما أعظمها من كلمة! حق لها أن تكتب بماء الذهب فقد ذاعت وشاعت وصارت مثلًا يتناقله الناس، وكذلك بقي كتابه العظيم (الموطأ) وتَلَقّته الأمة بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها ونفع الله بما فيه من العلم نفعًا عظيمًا وكم بارك الله في مصنفات العلماء السابقين فنفع بها في عصرهم وحتى العصر الحاضر فنجد كتبهم قد لقيت رواجًا وقبولًا وانتشارًا عجيبًا وأكب عليها طلاب العلم قراءة وفهمًا وشرحًا واختصارًا. وأردف بالقول أن من صور تلك القاعدة الجليلة العلاقات والصلات يقول الله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} قال ابن كثير رحمه الله: "أي كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل، فإنه دائم بدوامه" وقال ابن القيم رحمه الله: "وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء، أن كل من أحب شيئًا دون الله لغير الله؛ فإن مضرته أكثر من منفعته وعذابه أعظم من نعيمه"؛ مشيرًا إلى أن من صور تلك القاعدة أيضًا البذل والإنفاق؛ فالمؤمنون ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله تعالى. وأكد أن بذل الصدقات وإخراجها خالصة لوجه الله تعالى تؤدي بالإنسان إلى الخير الذي لا خير بعده، ألا وهو القرب من الله تعالى؛ لافتًا الانتباه إلى أن الكفار ينفقون أموالهم للصد عن اتباع طريق الحق وحرب المؤمنين وتدبير المكائد للمسلمين، وهذه الأموال تذهب وتضيع هباءً ولا تأتي بثمرة، وسيخيب رجاء المبطلين، ويجنون الحسرة، قال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}، وهذا هو الفرق بين من ينفق ماله لله وابتغاء مرضاته وأولئك الرجال الذين ملئت حياتهم بمواقف التضحية والفداء والبذل والعطاء، من أجل نصرة دين الله، ونذروا أنفسهم لله، وبين من ينفق ماله طاعة للشيطان ليصد عن سبيل الله ويسعى في إطفاء نور الله. وقال "غزاوي": الله جل جلاله هو الحي القيوم الدائم الباقي والخلق جميعًا ميتون فانون، وما عند الله من الأجر والثواب يبقى، والآخرة هي الحياة الدائمة الكاملة التي لا تفنى وأهلها لا يموتون فمن عمل لها وسعى لها سعيها كان من الفائزين المفلحين، والدنيا زائلة وأهلها زائلون؛ فكل ما كان للدنيا يزول ويفنى، هذا من الحقائق التي ينبغي ألا تغيب عنا وأن ترسخ في القلوب، نعم ما كان لله يبقى، فالإنسان الذي يعمل لله سيبقى عمله، وسيبقى أثره وسيبقى ذكره، قال الله جل ذكره {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا}. وشدد على أن أحق من ينبغي له أن يتأمل هذه القاعدة الربانية هم العلماء والدعاة إلى الله، فعليهم أن يكونوا على يقين أن ما كان لله يبقى، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل"، وقال: إذا كان ذلك كذلك؛ فعلينا أن نجاهد أنفسنا على الإخلاص والعمل لوجهه سبحانه؛ فإنه سبيل بقاء العمل والنجاة والفوز يوم القيامة عن علي رضي الله عنه قال: (ألا وإنكم في أيام مهل من ورائها أجل يحثه عجل فمن أخلص لله عمله في أيام مهله قبل حضور أجله فقد أحسن عمله ونال أمله، ومن قصر عن ذلك فقد خسر عمله وضره أمله"، وقال ابن حزم رحمه الله: إنما ينبغي أن يرغب الإنسان العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر التي يستحق من هي فيه الذكر الجميل والثناء الحسن والمدح وحميد الصفة؛ فهي التي تقربه من بارئه تعالى وتجعله مذكورًا عنده عز وجل؛ الذكر الذي ينفعه ويحصل على بقاء فائدته ولا يبيد أبد الأبد.

مشاركة :