التاريـــخ لــن يعيـــد نفســـه

  • 3/9/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في مقالي الأسبوع الفائت تحت عنوان «لا تقل أصلي وفصلي أبدًا..»، كتبت عن أهمية اعتمادنا كأشخاص على أنفسنا وإمكانياتنا أولا وقبل كل شيء، لا أن نتعقد أننا سنلاقي النجاح لمجرد أننا ننتسب لعائلة لها اسمها ومكانتها المالية والاجتماعية، وفي مقالي هذا أكتب عن الموضوع ذاته تقريبا ولكن ليس بصفتنا أفراد وإنما بصفتنا أمة عربية تتغنى بأمجاد الماضي فيما لا زالت منذ مئات السنين تتلمس طريقها نحو المكانة التي تستحق بين الأمم، دون جدوى. كثير من زملائي العرب الذين أدخل معهم في نقاشات حول كيفية إعادة بناء مجد أمتنا، يذكرونني فورا بأمجاد العرب في سالف العصور، بعلماء العرب، وفلاسفة العرب، بالبناء والفن العربي، وهذا طبعا صحيح، ولكن لا يجب أن نتوقف عنده، فهو جزء من مساهماتنا سابقا مع أمم أخرى في نهضة البشرية. هناك الكثير من الشعوب مثل الصينيين واليابانيين والهنود والمكسيكيين بنوا حضارات كبيرة، وتفاعلوا مع البشرية بإيجابية، وتركوا بصمات واضحة لا زالت ماثلة للعيان، لكن الفرق بيننا كعرب وبينهم أنهم استطاعوا أن يجدوا لنفسهم طريقا نقلوا من خلالها أمتهم ودولتهم وشعبهم إلى عصر التقدم والحداثة، فيما بقينا نحن تتنازعنا أمراض الفقر والجهل والتخلف رغم الثروة النفطية والبشرية الهائلة التي حبانا الله تعالى بها. كل الأمم تمر في عصور ازدهار وانحطاط، والشاعر يقول «هي الأمور كما شاهدتها دول.. من سره زمن ساءته أزمان»، وبعض الأمم تعود في فترات انحطاطها لتاريخها، تمزج الحقائق بالأساطير، فيصبح التاريخ كقصص الأطفال ما قبل النوم، وتبدأ الأجيال اللاحقة بالانسلاخ عن ماضيها والتنكر له، وتسعى لتقمص نمط حياة شعوب أخرى، لكنها تصبح «كـالغراب الذي أراد أن يقلد مشية الحمامة، فلا هو استطاع تقليد مشيتها، ولا هو استطاع تذكر مشيته الأصلية». اعتقد أن الحضارة والخلق والابداع ينبع أساسا من المعاناة، فالحاجة أم الاختراع، والأمم التي تركت لنا إرثا حضاريا إنما كان نتيجة نجاحها في التغلب على الظروف القاسية التي تحيط بها، خاصة الظروف البيئية، ولنا في الشعوب الصينية خير مثال على ذلك، عندما زرعوا أعالي الجبال، وجروا المياه لعشرات الكيلومترات تحت الأرض، وابتكروا أساليب عجيبة للتنقل بين المستنقعات، وبنوا السور العظيم ليقيهم شر أعدائهم. بالمقابل، نحن كعرب اليوم لسنا جائعين، فقد أصبح كل شيء متوفر لدينا، وأصبحت مجتمعاتنا استهلاكية بكل معنى الكلمة بما في ذلك المجتمعات الفقيرة، وأصبحنا اتكاليين. لقد مرت اليابان بفترات انحطاط مماثلة لما ممرنا به، لكنها بعد الحرب العالمية الثانية قررت أن تصالح من هزمها، وتتعلم منه وتحذو حذوه، فخلع الشعب الياباني زيه التقليدي «الكيمونو» الذي اشتهر به عبر التاريخ، وارتدى لباس التطور والحضارة. كذلك خلعت الصين عن نفسها عباءة اشتراكية ماو تسي تونغ الكئيبة، بعد أن أدركت أن معطيات خمسينات القرن الماضي لا تناسب توجهات القرن الحادي والعشرين، ودخلت عصر الرأسمالية والانفتاح الاقتصادي وأصبح لديها أكبر عدد من المليارديرات في العالم، فيما لا زالت دول مثل فنزويلا وكوبا مثلا تعيش على ذكرى الشيوعية الحالمة التي تخالف ما فطر عليه الإنسان من حب التملك والتميز، وشعبها يعاني الجوع والفقر المدقع رغم توفر موارد هائلة. الصين أخذت من تاريخها فقط ما يعينها على العبور نحو المستقبل، وها هي الآن تعيد بناء طريق الحرير التجاري، ولكن بمفهوم عصري يجعلها القطب الاقتصادي الأكبر في العالم، مستثمرة الأبعاد الثقافية والتاريخية لهذا الطريق فيما يخدم مصالحها الحالية والمستقبلية. ألمانيا أيضا حققت المعجزة، ونهضت من ركامها بعد الحرب العالمية الثانية، وتخلت عن أطماعها النازية والعنصرية، وطلقت الحقبة الهتلرية بالثلاث، بل وضعت قوانين تعاقب من يحمل أفكارا تلك الحقبة، واندمجت مع العالم الغربي المتقدم، وأصبحت من أقوى الاقتصاديات العالمية.  أنا أقول اليوم لكل انسان عربي، بأن يقظتنا تبدأ عندما لا نلتفت إلى الماضي بقدر ما نطلع إلى المستقبل، وألا نأخذ من الماضي إلا ما يعيننا على الاندماج في الحضارة البشرية، فنحن لن نفتح الأندلس مرة أخرى، وجيوشنا الآن بصراحة لا تستطيع مقارعة جيش «الروم». دعونا ننظر إلى عصر الخليفة العباسي المأمون عندما كان يعطى من يترجم كتابا وزنه ذهبا، وننطلق منها لإطلاق مبادرات مثل «تحدي القراءة العربي» للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نقرأ شعر حافظ إبراهيم «إذا ألمت بوادي النيل نازلة.. باتت لها راسيات الشام تضطرب» لنعلم أولادنا ضرورة التلاحم العربي، نعتز بمبادئ العرب الأصيلة في إكرام الضيف وإغاثة الملهوف والوفاء بالوعد بما يعيننا على زرع مكارم الأخلاق في أطفالنا وتعزيز ثقتهم بأنفسهم. اعتقد أننا بحاجة إلى مشروع عربي موحد، ثقافي بالدرجة الأولى، نعيد من خلاله بناء وعي الإنسان العربي، وتحديد المعالم الأساسية لشخصيته، ورسم العلاقة الصحيحة بينه وبين ماضيه، ودوره في مسيرة الحضارة الإنسانية، وعندما نتمكن من بناء هذا الإنسان القوي من داخله، لن يستطيع أحد أن يهزمنا لا فكريا ولا ثقافيا ولا اقتصاديا ولا عسكريا، وسنأخذ مجددا مكانتنا التي نستحق كأمة بين الأمم.

مشاركة :