في مثل هذا اليوم منذ 50 عامًا كان دمه الطاهر هو ألق الوطن ومجده لتتوهج ثقافة الشهادة في أرض الكنانة.. هنا في "العلامة رقم 6" عند قناة السويس وعلى مسافة لا تزيد على 250 مترًا من نيران العدو كان البطل عبد المنعم رياض يشرع قامته النبيلة ويركض ساطعا كوهج النور نحو الشهادة ليكون يوم استشهاده هو "يوم الشهيد".وواقع الحال أن ابن مصر البار "الجنرال الذهبي والمفكر الاستراتيجي عبد المنعم رياض" كان يجسد الانتماء لواحدة من أعظم الحضارات الإنسانية في سلوكيات وممارسات على الأرض واستجابات على مستوى التحديات الجسام وليتحول هو ذاته إلى أيقونة للوطنية المصرية والانتصار للحياة في مواجهة أعداء الحياة.فهنا في الخندق الأول للموقع الأول بالنسق الأول على خط النار وقف البطل مفردًا في صيغة وطن وحلم شعب وقضية أمة.. ومن هنا اختار "فارس الشهداء" عبد المنعم رياض أن يوجه الرسالة لكل من يعنيه الأمر: "مصر لن تسقط ولن تموت".وإذ تتوالى قصص الشهداء في الصحف ووسائل الإعلام، فإن "يوم الشهيد" الذي يحتفل به المصريون اليوم السبت، يجدد المعنى الراسخ في الوجدان المصري وهو أنه ليس هناك أعظم ولا أنبل من دماء الشهداء فيما يتحول كل شهيد إلى معنى لا يموت بقدر ما يؤكد أن كل مصري هو "مشروع شهيد في مواجهة أعداء مصر والمصريين مهما اختلفت صورهم وتعددت أشكالهم".وكل الشهداء في المعارك المظفرة لتطهير أرض الكنانة من شرور الإرهاب الظلامي هم في الواقع أبناء وأحفاد فارس الشهداء عبد المنعم رياض وكل شهيد في تلك الكوكبة الخالدة في وجدان مصر امثولة في التضحية والفداء بقدر ما تعبر عن المعاني التي حملتها ملحمة استشهاد "الجنرال الذهبي منذ نصف قرن".وكان الأزهر الشريف قد أكد في بيان أمس "الجمعة" أن "تاريخ قواتنا المسلحة الحافل بالبطولات والتضحيات يعكس قيم الإيمان والبطولة والتضحية التي يتربى عليها جنودنا البواسل والتي جعلت من جيشنا القدوة في النزاهة والشرف العسكري ليجسد في كل المحطات درع الوطن الذي يحمي الأرض والشعب والسيف الذي يردع المعتدي الغاشم واليد التي تساهم في البناء والتنمية في وقت السلم".وفيما ذكرت وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم في سياق افتتاح معرض دمنهور الرابع للكتاب أن الثقافة المصرية ستظل دائما عنوانا للصمود فإن بنية الثقافة الوطنية المصرية تكتسب المزيد من الرسوخ مع بطولات الشهداء.ولعل المؤسسات الثقافية المصرية مدعوة لمزيد من الفعاليات والاسهامات حول مفاهيم الشهادة كأعلى مراحل ودرجات البطولة بجوانبها الدينية والأخلاقية وأبعادها الفلسفية والثقافية في وقت يكتب فيه جند مصر صفحة مجد جديدة في "جغرافيا الشهداء" وهم يدحرون الإرهاب الظلامي العميل ويردون غائلته وشروره عن التراب الوطني المصري ويتسابقون على الانضمام لقوافل الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون.ولئن كانت مفاهيم الشهادة كأعلى مراحل ودرجات البطولة موضع اهتمام ثقافي سواء في الشرق او الغرب فان هذه المفاهيم تكتسب المزيد من الأبعاد النبيلة في ضوء بطولات جند مصر في منازلة كل أعداء هذا الوطن ودحر عصابات الأرهاب الدموي التي لا تستبيح حق الحياة فحسب وانما تستبيح ايضا قيمة الأرض التي تحظى بأهمية كبيرة ومعان سامية لدى المصريين ناهيك عن انتهاك تلك العناصر التكفيرية الظلامية العميلة والساعية لشرعنة قانون الغاب لقيم الحرية والعقل والكرامة والعدل.وإذ تتبنى عصابات الإرهاب الساقطة في غياهب العمالة فكرا متهافتا وتأويلات منحرفة عن صحيح الدين لإسقاط فكرة الوطن وأفكار الوطنية وهي عصابات معادية بالضرورة لقيمة الأرض ولا تفقه المعاني السامية المرتبطة بهذه القيمة التي وقرت في وجدان كل من ينتمي حقا لأرض الكنانة فإن فارس الشهداء عبد المنعم رياض هو خير معبر عن قيمة الأرض وكل قيم الوطنية المصرية.وبالقدر ذاته أمسى عبد المنعم رياض يلهم كل المصريين الذين يدافعون عن أرضهم وقيمهم لتتحقق في الواقع المصري مقولة مثقف غربي مثل روبرت بارليت في كتابه:"لماذا يصنع الموتى أشياء عظيمة؟ من الشهداء إلى الإصلاح" حول تأثير الشهداء الفاعل في مجتمعاتهم على اختلاف السياقات الثقافية بين المجتمعات والحضارات.والحرب الجديدة التي يخوضها جند مصر ضد الإرهاب هي حرب ضد الجهالة والخيانة معا وهي في المقام الأول حرب تدافع عن الثقافة الوطنية المصرية وتنتصر لها في عالم يشهد تغييرا ثقافيا عميقا حتى في مفاهيم الحرب التي تنتقل من "إطلاق النار إلى إطلاق الأفكار".إنها حركة التاريخ التي كان فارس الشهداء عبد المنعم رياض يبدع في تناولها كمثقف مصري كبير وكمفكر استراتيجي وصاحب رؤى في قضايا الحرب والسلام وجدل وصراع المطالب والمصالح وحسابات الربح والخسارة وتضحيات المقاتلين دفاعا عن حقوق شعبهم في الاختيار الحر وأشواقهم في التقدم والنماء.وبقدر ما يستعيد المصريون اليوم وكل يوم ذكرى وأمثولة استشهاد رئيس الأركان البطل عبد المنعم رياض بقدر ماتثير ذكرى مرور 50 عاما على هذا اليوم الفاصل في ثقافة الشهادة اكثر من سؤال بالنسبة للثقافة المصرية وتفرض حالة من المقارنة مع الثقافة الغربية فيما يتعلق بالكتب والأعمال الابداعية عن الشهداء وابطال الحروب وكبار القادة العسكريين.فرغم مرور 50 عاما على استشهاد الفريق عبد المنعم رياض تفتقر المكتبة المصرية لكتب عن "فارس الشهداء" على غرار الكتب التى تصدر في الغرب بمستوى رفيع وتتناول القادة الكبار والحروب الكبرى مثل الحرب العالمية الثانية التي مازالت تلهم الكتاب والمبدعين هناك بالمزيد من الكتب والأفلام والأعمال الإبداعية بينما لم تقدم السينما والدراما التليفزيونية في مصر بعد عملا يليق بفارس الشهداء.والواقع أن القائد العسكري المصري الراحل الفريق أول محمد فوزي قد أشار من قبل لهذه القضية عندما تحدث في كتابه "حرب الثلاث سنوات" إلى خلو المكتبة المصرية-العربية من كتب تبين الحقائق والدروس المستفادة منها بالتفصيل لتأخذ طريقها إلى عقول وأفكار الأجيال الناشئة ولتكون مرجعا تاريخيا للأجيال القادمة.وفي كتابه: "حرب الثلاث سنوات" الذي تناول فيه حرب الاستنزاف بصورة مفصلة يتحدث الفريق أول محمد فوزي الذي شغل منصب القائد العام للقوات المسلحة بعد حرب الخامس من يونيو 1967 عن واقعة استشهاد رئيس الأركان عبد المنعم رياض الذي تحل الذكرى المئوية لمولده في هذا العام أيضا ليكون عام 2019 هو العام الذي يحمل مئوية مولد هذا البطل المصري فضلا عن مرور 50 عاما على استشهاده الذي يوافق اليوم "السبت".فقد ولد "فارس الشهداء" الفريق عبد المنعم رياض يوم الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1919 في قرية سبرباي بمحافظة الغربية وكان والده "القائم مقام محمد رياض عبدالله" هو "قائد بلوكات الطلبة بالكلية الحربية".ولأنه كان من المتفوقين في الثانوية العامة "الشهادة التوجيهية حينئذ" فقد التحق بكلية الطب بناء على رغبة أسرته غير أنه أصر بعد عامين من الدراسة في هذه الكلية على تحقيق حلمه في الالتحاق بالكلية الحربية التي تخرج منها برتبة ملازم ثان عام 1938.وفيما نال فارس الشهداء عبد المنعم رياض درجة الماجستير في العلوم العسكرية عام 1944 وكان ترتيبه الأول واستكمل دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات في إنجلترا عامي 1945 و1946 فقد أتقن عدة لغات إلى جانب الإنجليزية من بينها الفرنسية والألمانية والروسية وتولى وهو برتبة البكباشي قيادة مدرسة المدفعية المضادة للطائرات في عام 1951.وفي التاسع من أبريل عام 1958 توجه عبد المنعم رياض الى الاتحاد السوفييتي للدراسة في الأكاديمية العسكرية العليا واتمها بامتياز في عام 1959 وحصل على زمالة كلية الحرب العليا بأكاديمية ناصر العسكرية عام 1966.وكانت "القيادة العربية الموحدة" قد أقيمت حينئذ لتوحيد الجهود العسكرية العربية ضد إسرائيل فيما يقول محمد فوزي في كتابه:"كان الفريق عبد المنعم رياض الذي عين رئيسا لأركان هذه القيادة هو المحرك الفعلي لنشاطها في أغلب دول المواجهة.وكان للرئيس الراحل جمال عبد الناصر يبتسم لأول مرة بعد هزيمة يونيو وعبد المنعم رياض يطلب منه بالحاح بعد أن اختير رئيسا للأركان يوم الحادي عشر من يونيو 1967 ألا يقبل أبدا أى عرض لإعادة سيناء لمصر حتى دون شروط. مؤكدا أن الحرب واجب أخلاقي لاستعادة هذه الأرض المصرية الغالية والثأر لدماء الشهداء في حرب الخامس من يونيو.وانتمى عبد المنعم رياض بامتياز لكوكبة من المقاتلين المثقفين فهو العسكري المفكر والذي يعي جيدا المعني الفلسفي العميق لقضايا الحرب والسلام وإرادة المقاومة ولماذا تكون الحرب ضرورة أخلاقية أحيانا في سياق حركة التاريخ وسنن الله الفاعلة.ولم يكن من الغريب إذن أن ينتسب الضابط العظيم عبد المنعم رياض لكلية العلوم لدراسة الرياضة البحتة أو ينتسب وهو برتبة الفريق لكلية التجارة لإدراكه لأهمية الاقتصاد في القضايا الاستراتيجية فيما كان يرى أن القادة يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة ويمكن في سياق كهذا استعادة ما قاله الفريق أول محمد فوزي في كتابه:"أن الأمن القومي قضية متعددة الأبعاد والعوامل تختلط فيها السياسة بالاقتصاد والجغرافيا بالعسكرية والوضع الاجتماعي بالأمن والنظام السياسي بالاستراتيجية".وقبل أن ينتهي عام 1967 بدأ الفريق عبد المنعم رياض في إعداد الخطة العامة لتحرير الأرض المصرية المحتلة كما يوضح الفريق أول محمد فوزي في كتابه لتدور عجلة التنفيذ اعتبارا من فاتحة عام 1968 فيما بدأت بالفعل مرحلة المواجهة عبر قناة السويس.وإذا كان لكل مصري أن يتذكر فارس الشهداء عبد المنعم رياض عندما يرى قناة السويس أو يعبرها آمنًا إلى سيناء فإن الضمير الوطني المصري لا يمكن أن ينسى مدن القناة وتضحيات سكانها بعد حرب الخامس من يونيو وقرار مصر بالصمود ورفض الاستسلام للهزيمة وبدء حرب الاستنزاف ضد المحتل الغاصب.ومن دروس القتال وحوارات النار كان عبد المنعم رياض بثقافته الواسعة قادرا على التوصل لاجابات تثيرها أسئلة مهمة مثل:"ما الذي تفعله الحرب في هؤلاء الذين يخوضون معاركها العسكرية؟ وكيف للمواطن العادي أن يتحمل هذه الظروف غير العادية ويواصل الحياة والبناء لتطبيق شعار "يد تبني ويد تحمل السلاح".وفي كتابه "حرب الثلاث سنوات"، يقول الفريق أول محمد فوزي:"جاءت لحظة من اللحظات السيئة التي لا تحدث إلا نادرا إذ شاهد العدو رتلا من عربات القيادة قادما من بورسعيد إلى الإسماعيلية على الطريق الموازي لقناة السويس واستشعر أن به شخصية عسكرية مهمة".ويضيف فوزي:"تتبع العدو سير هذا الرتل حتى وصل إلى الموقع رقم 6 في الإسماعيلية وأطلق عددا من قذائف المدفعية 155 مم فاستشهد البطل عبد المنعم رياض وفقدت بذلك نائبي وزميلي وصديقي يوم 9 مارس 1969 في الخندق الأول للموقع الأول في النسق الأول لقوات الجيش الثاني وتحولت جنازته في وسط القاهرة إلى ملحمة وطنية".والملحمة مستمرة وثقافة الشهادة تتوهج وكل مصري ينتمي حقا لهذه الأرض مستعد للاستشهاد في مواجهة كل عدوان على مصر والمصريين ودحر كل عدو مهما تعددت الأقنعة والصور للأعداء حتى لا تنحني الجباة وينتصر الظلام ويموت المعنى.. أنها مصر التي أنجبت فارس الشهداء عبد المنعم رياض ويتسابق جندها على نيل شرف ومجد الشهادة فكيف لها أن تسقط أو تموت؟!
مشاركة :