ظهور سطحي لأم كلثوم والعندليب على مسرح البالون بالقاهرة

  • 3/10/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يحمل العرض الغنائي الاستعراضي “سيرة حب”، الذي تشهده القاهرة حاليا على مسرح البالون، عنوان أغنية شهيرة، وينطلق من النوستالجيا وشوق الجمهور إلى زمن الفن الجميل مستعيدا الموسيقار بليغ حمدي الذي لحّن الأغنية، وأم كلثوم التي غنتها، ونجوم العصر الذهبي للموسيقى والطرب، في محاولة لتشخيص الماضي من جديد واستعادة “سيرة بليغ” فنيا وحياتيا، وتبرئته بالحب في واقعة وفاة المغربية سميرة مليان أسفل شرفة شقته عام 1984. تتعدد وجوه ومسارات العروض المسرحية المعاصرة في مصر، ومنها العروض الغنائية والاستعراضية، التي تأخذ على عاتقها في أحوال كثيرة التعريف بتراث الموسيقى والغناء، واستعادة أعمال فنية متميزة من الماضي، لتقريبها إلى ذائقة الأجيال الجديدة. ومن هذه العروض “سيرة حب”، الذي يتناول شخصية الموسيقار بليغ حمدي (1932-1993) وأشهر ألحانه وأبرز محطات حياته، خصوصا سنوات الغربة في باريس، التي أعقبتها عودته إلى القاهرة ووفاته فيها. مثلما يشير عنوان العرض “سيرة حب”، الذي كتبه أيمن الحكيم وأخرجه وصمم استعراضاته عادل عبده، فإنه لا يتجاوز توصيفه الأوّلي كعرض استعراضي غنائي على المسرح، يستلهم السيرة الحياتية لبليغ حمدي والشخصيات الحقيقية من أهل الفن وغيرهم الذين ارتبط بهم الموسيقار الراحل في محطات حياته المختلفة. هذه السيرة مشحونة بالضرورة بالحب، ومغلفة به، لتكتمل دلالة العنوان، بما تحمله هذه الدلالة من معاني توجيه التحية واستعادة شخصية الموسيقار كقيمة فنية إيجابية، وانتقاء نماذج ناجحة من ألحانه المغناة بأصوات أم كلثوم ووردة وعبدالحليم حافظ ورشدي والعزبي والنقشبندي وميادة الحناوي وغيرهم، ليشدو بها أبطال العرض بالتوزيعات الموسيقية الجديدة لمحمد أبواليزيد. قاضي الفن استعادة بليغ حمدي.. بملامح مغايرة استعادة بليغ حمدي.. بملامح مغايرة هكذا حدد العمل مساره منذ البداية، فليست الدراما المتشابكة وتخليق المواقف والصراعات من أولوياته، فهو استعراض غنائي على خشبة المسرح وليس مسرحية درامية قائمة بذاتها، لكن العرض لم يغفل الدراما تماما، إذ استعان بها لإحياء الشخصيات وبناء المشاهد الحوارية واستعادة لقطات ومواقف شهيرة في حياة بليغ حمدي، فضلا عن انعقاد محكمة الفن الفانتازية في نهاية العرض، ليدلي الفنانون بشهاداتهم بحق بليغ أمام قاضي الفن، وتصير هذه الشهادات الفنية العاطفية مسوغات قانونية لبراءة الموسيقار في واقعة مصرع المغربية سميرة مليان أسفل شرفة شقته عام 1984. هذا الانغماس في بحيرة الدراما، على هشاشته وعدم اعتماده هيكلا بنائيّا، لا يعفي العرض من المساءلة بمنطق الدراما، طالما أن المعالجة الفنية قد تعدت مجرد تقديم وصلات غنائية من ألحان بليغ حمدي كأي حفل غنائي استعادي مما يقام لإحياء ذكرى الراحلين، فهناك شخصيات تاريخية، وهناك أحداث واقعية وتفاصيل وسرد وحوار وتمثيل ومشاهد متنوعة بين القاهرة وباريس، ومن ثم فقد فرضت المسرحة ذاتها على عمل لا يدّعي المعمار المسرحي أصلا. يستدعي السيناريو المبسط للعرض مواقف ومحطات بارزة في حياة بليغ حمدي، والشخصيات المحيطة به، بالاعتماد على الروايات السائغة المسرودة تاريخيّا وإعلاميّا وليس الاجتهاد الدرامي المشغول، وجرى نقل هذه اللقطات كمشاهد قصيرة وامضة، غير متتابعة زمنيّا، ليشكل كل مشهد لحظة أو حالة مرّ بها بليغ حمدي في حياته، تكشف جانبا من شخصيته، ويمتلئ المشهد عادة بغناء مقطع أو أكثر من ألحانه بصوت مروة ناجي بطلة العرض، والأبطال المشاركين. يركز العرض على المواقف والأحداث الفارقة في حياة بليغ، والشخصيات الأكثر تأثيرا في مسيرة حياته، وتتوزع المشاهد بين القاهرة وباريس، حيث سنوات المنفى التي عاشها بليغ في الغربة بعد واقعة مصرع سميرة مليان، وعدم تمكنه من العودة إلى مصر إلا بعد قبول المحكمة الطعن المقدم منه، وتبرئته بعد إقرار الواقعة كانتحار، وثبوت أن بليغ استقبل ضيوفه في هذه الليلة، ومنهم سميرة وأصدقاؤها، وتركهم لينام، وبعدها حدثت الواقعة التي لا يعلم عنها شيئا. تبنت المسرحية هذه الرواية كدليل قانوني مقنع لتبرئة بليغ، وقدمت في الوقت نفسه مشهدا فانتازيّا مؤلفا في نهاية العرض، لتبرئة بليغ بطريقة أخرى هي “شهادات الحب”، حيث انعقدت “محكمة الفن” بحضور قاضي الفن ومجموعة من الشهود، منهم عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وعبدالرحمن الأبنودي وسيد النقشبندي وغيرهم، وأدلى الجميع بشهاداتهم في محبة الموسيقار بليغ حمدي وتحيته فنيّا كفنان مصري مجدد يعشق تراب وطنه ولا يستحق الغربة، فنطق القاضي بحكم البراءة، لتنتهي المسرحية باللحن الختامي “يا حبيبتي يا مصر”، من مؤلفات بليغ. وردة الجزائرية وبليغ موسيقى الشعب وصوت الأصالة موسيقى الشعب وصوت الأصالة من المواقف التي استحضرها العرض كمشاهد فارقة في حياة بليغ، معاناته من الغربة في باريس، وتعرفه على المحامية حنة سليمان وزوجها الصحافي سعيد منصور، اللذين ذهبا لقضاء شهر العسل في باريس، حيث أقنعاه بضرورة استئناف قضية سميرة مليان في مصر، ليتمكن من إثبات براءته، وبالفعل تمكن من ذلك بمساندتهما. استدعى العرض كذلك ليلة زفاف بليغ حمدي ووردة الجزائرية، وملابسات تأخره عن حضور الحفل لانشغاله في التأليف، الأمر الذي أحدث أزمة مع العروس وردة، وكذلك زيارة بليغ لمحمد عبدالوهاب في بيته، التي فسرها عبدالوهاب بأنها من أجل أن يطلب بليغ يد ابنته “إش إش”، لكن بليغ فاجأ عبدالوهاب وابنته بالتحدث في أمور موسيقية، وانسحب من دون التحدث في أمر الزواج. العشرات من المواقف الأخرى يستعيدها العرض، تبرز علاقات بليغ بأم كلثوم، التي انتقدها رياض السنباطي لتعاملها مع موسيقار صغير في سن بليغ، وعبدالحليم حافظ والأبنودي (رفيقي الدرب وهزيمة يونيو 1967 وموال عدى النهار الشهير)، ووردة المطربة والزوجة والحبيبة، وغيرهم من نجوم الفن والطرب، ومنهم محمد فوزي ورشدي والعزبي ونجاة وميادة الحناوي وأحمد عدوية. على الرغم من نجاح العرض في رسم صورة فنية وإنسانية مبسطة لبليغ حمدي، الموسيقار التلقائي الذي توّج موهبته الفطرية بالدراسة، والرجل الفوضوي، الذي يمكن أن يستوعب همّ وطنه لكنه لا يستطيع أن يحمل مسؤولية بيت، كما وصفه عبدالوهاب في العرض، فإن هذا التبسيط في الطرح قد زاد على ما تقتضيه الحاجة من لوازم التعمق والجدية والالتزام، إذ كاد العرض يكتفي باستثمار النوستالجيا وتشوق الجمهور إلى كل ما هو ماضوي أصيل، فكان “النجاح المضمون” بوابة للاستسهال وورود أقصر الطرق دائما. يُحسب للعرض بالتأكيد وقوفه على روائع نغمية وتطريبية، وإعادة بثها بثوب عصري، وتقريبها إلى ذائقة الأجيال الجديدة، وكذلك تقديمه الصوت القوي مروة ناجي، ومزجه بين المشاهد الممثلة والخلفية السينمائية المصوّرة، وانتهاجه الأداء الاستعراضي المبهر بصريّا من حيث الأداء الجسدي والقدرة على شغل المسرح بثنائيات وثلاثيات ومجموعات متحركة باستمرار تكسر سكون الأحداث ومعرفة الجمهور المسبقة بالوقائع. الثنائي بليغ ووردة.. في جانب من حفل زفافهما بالعرض المسرحي الثنائي بليغ ووردة.. في جانب من حفل زفافهما بالعرض المسرحي لكن يبقى العرض هو عرض العناوين العريضة والخطوط العامة، دون الغوص في الأعماق وكشف مفاتيح الشخصيات، كما أن الأداء التطريبي في بعض الألحان لم يكن بالمستوى اللائق الذي يقارب العمل الأصلي، كما في أغنيات عبدالحليم حافظ على سبيل المثال. لم يتم التركيز بالقدر الكافي على الملمح الأبرز لتفوق موسيقى بليغ حمدي، الذي ميزه عن غيره من رفقاء جيله، وهو نهله من الموروث الشعبي، وتفجيره للموسيقى “المصرية” الأصيلة بخلاف السائد من الموسيقى العربية والتركية، وبدا الخط العام لرسم الشخصية من خلال كليشيهات ولزمات قولية وعموميات إنسانية، مثل لفظة “حياتي” المتكررة، الجنون في الحياة والفن، عاشق مصر الذي لا يستحق الغربة، إلخ. اجتهد الفنان إيهاب فهمي في تجسيد شخصية بليغ حمدي في حدود قدراته وندرة المواقف المتعمقة التي تمكنه من إبراز طاقاته الداخلية، وهذا التسطيح انسحب على الشخصيات الأخرى بدورها، وبلغ الأمر مداه من التجسيد الكاريكاتيري غير المتناسب مع قيمة الفنان في شخصية الموسيقار محمد عبدالوهاب، الذي جرى تصويره بأسلوب كوميدي فج على هيئة شخص يبالغ في الاحتياط والخوف من العدوى المرضية (الْوَسْوَسَة)، ويستعمل المطهرات باستمرار في أي مكان يدخله، حتى في قاعة المحكمة، فلم يلتصق بذهن المشاهد منه شيء غير هذا الظل الباهت غير اللائق. في النهاية، يبقى عرض “سيرة حب” إطلالة مثيرة للانتباه والوعي والجدل صوب نافذة الماضي المضاءة دائما بالروائع النغمية الأخاذة، وهي إطلالة تحمل بين طياتها صوت العصر الحالي المفلس المأزوم.

مشاركة :