لم تلتفت الأجيال الجديدة من الشباب لكتاب «مقدمة ابن خلدون» لعبدالرحمن ابن خلدون إلا قبل سنوات قليلة، حين أعلن مؤسس موقع «فيسبوك» مارك زوكربيرج، أنه سيبدأ في قراءته، وهو كتاب صاغه مفكر عاش في القرن الرابع عشر، وركز فيه على كيفية تطور المجتمع والثقافة، بما في ذلك إقامة المدن والسياسة والتجارة والعلوم، وبعدها انشغل الكثيرون بالكتاب الذي يعد مرجعاً ليس في الثقافة العربية وحدها، وإنما في عموم الثقافة الإنسانية. المفارقة اللافتة للنظر أن الكتاب يخضع لتأويلات متباينة من المعجبين بابن خلدون أو المتحفظين على أفكاره، والمدهش أكثر أن النقاش حوله في ثقافتنا المعاصرة، يعود لأكثر من مئة عام مضت حين انتهى المفكر المصري طه حسين في العام 1917 من دراسته للدكتوراه وكانت بعنوان «ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية»، التي ترجمها عن الفرنسية عبدالله عنان، ونشرت عام 1925. ولعلها كانت أول تناول نقدي لأفكار ابن خلدون التي ظلت محاطة بقداسة «المبالغات» قبل أن يأتي النهضويون العرب ويثيروا اهتماماً حول مكانتها في التاريخ. وكعادته في تلك السنوات سعى طه حسين لممارسة نقدية عنيفة وضعت النص في سياقه، وسعت في نفس الوقت لتأويله دون أن تنزع عن الرجل صفته التقدمية وأسبقيته في تحليل الظواهر والنظر للتاريخ ككل متكامل وكعملية مستمرة ومترابطة. واعتبر طه حسين أن أفكار ابن خلدون هي مرآة صادقة لعصره، ولم تخل المقدمة التي كتبها من تناول تطور الأمم والشعوب ونشوء الدولة وأسباب انهيارها مركزاً في تفسير ذلك على مفهوم العصبية، وهو مفهوم مركزي سبق به غيره من المفكرين إلى العديد من الآراء والأفكار، وعلى رأسها صياغة تعبير «علم العمران» الذي بفضله اعتبره البعض مؤسساً لعلم الاجتماع، سابقاً بذلك الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت. وبحسب تفسير عدد من المفكرين العرب أبرزهم عالم الاجتماع المصري علي عبدالواحد وافي، فلا تزال مقدمة النص واحدة من أبرز القراءات. المعرفة التاريخية «علم العمران» كما سماه لا يتأثر بالحوادث الفردية وإنما يتأثر بالمجتمعات ككل، وهذه القوانين يمكن تطبيقها على مجتمعات تعيش في أزمنة مختلفة بشرط أن تكون البُنى واحدة في جميعها، فمثلاً المجتمع الزراعي هو نفس المجتمع الزراعي بعد 100 سنة أو في العصر نفسه. في حين يتكون كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» من سبعة أجزاء والجزء الثامن للفهارس، وهو عبارة عن محاولة إسلامية لفهم التاريخ العالمي إلا أن الكتاب لا يضع صاحبه في فئة المؤرخين، لكنه تضمن الكثير من النظريات التي تجعل نفراً من الدارسين يقوم بتدريسه كمفسر للتاريخ، ومن هؤلاء المفكر المغربي د. علي أومليل الذي أفرد كتاباً كاملاً حول ابن خلدون والمنهج التاريخي ومن قبله كانت دراسة المفكر القومي ساطع الحصري عن ابن خلدون والمعرفة التاريخية، وانتهى فيها إلى أن نزعة ابن خلدون الفكرية كانت أقرب من نزعة فيكو إلى مناحي البحوث العلمية بوجه عام، وإلى أصول علمي التاريخ والاجتماع بوجه خاص. وطور ابن خلدون تعريف التاريخ بقوله: فنّ التاريخ الذي تتداوله الأمم والأجيال.. هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، علم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، جدير بأن يعدّ في علومها وخليق. ويعكس التعريف فكرة ابن خلدون عن التاريخ، فهو فن من فنون المعرفة، يحوي أخباراً عن الزمن الماضي، غير أن هذه الأخبار ليست كل شيء في التاريخ؛ إنما هي الصورة التي تبدو لنا، هي محصلة لحركة أخرى في هذا الكون غير مرئية، ولشكل من العوامل وفعلها المفرد أو المتضافر الذي بموجبه تحدث الأحداث الوقائع. فالمحصلة التي نراها في التاريخ -الأخبار- هي بنت الصلة بين الحركة العامة والعوامل الخاصة الظرفية وهي مع الكيفية التي يقع بها الحدث، ويكتب في شكل خبر، تشكل جوهر التاريخ. وبالتالي فإن الصورة النهائية للتاريخ ليست أحادية العامل في التشكيل، إنما هي متعددة العوامل تسهم فيها الحركة العامة والظرف المكاني والأسباب الكامنة وراء الحدث، ثم شكل الحدث، ثم كيفية استكشافه وتقديمه في شكل خبر. قراءة طه حسين ولعل الجانب الأهم في قراءة طه حسين لأفكار ابن خلدون كونه تعامله كرجل دولة، ولعله نموذج متقدم لما يسمى الآن «مثقفو التنوير» من داخل السلطة، وهو نموذج تنامى في أوروبا بعد الثورة الفرنسية، في حين أظهرت تجربة ابن خلدون تجليه في ثقافتنا العربية، فقد استخرج أفكاره من الحياة التي عاشها كمفكر بلاط، ومن دراسته لتاريخ الإسلام ومختلف النظريات الفلسفية التي عرفها. ومع ذلك يخلص طه حسين إلى رأي مخالف للكثيرين من المختصين قائلاً: إن رأي ابن خلدون في المجتمع ومنهجه لدرسه لا يضعانه في صف علماء الاجتماع الحديثين، بل لم يكن لابن خلدون رأي واضح فيما يميز المجتمع من الأفراد، ومن أسس الاجتماع وجوب تمييز حقيقة اجتماعية وإلا كان الاجتماع ضرباً من تعميم علم النفس ليس غير. بل إن كون منهج ابن خلدون لم يتحرر من عادات عصره تحرراً كافياً ليكون علماً حقيقياً وليجعل إلى درجة كافية من الحادث الاجتماعي موضوعاً يضع حائلاً بين عمله وبين العلم الحديث. وأخيراً يدرس ابن خلدون المجتمع ليشرح التاريخ، ويجب لأن يوصف الاجتماع بأنه علم أن يكون مستقلًا. هو لم يرد أن يدرس الحضارة فقط، بل أراد أن يدرس قوانين التقدم الإنساني بصفة عامة، ولهذا سمينا بحثه الفلسفة الاجتماعية، لأن الآراء التي يشرحها ليست موضوعية بدرجة كافية لأن تجعلها علمية ولم تعرض بالطريقة القصصية التي هي طريقة التاريخ، هو نزع من التأمل في الحضارة تدعمه أدلة تاريخية أو غيرها. النظرة الاقتصادية ويبالغ بعض المثقفين العرب في النظر كذلك لمقدمة ابن خلدون كنص تأسيسي في تقديم التفسير الاقتصادي للتاريخ، ومن بين هؤلاء محمد حلمي مراد الذي سمى ابن خلدون «أبو الاقتصاد.. ابن خلدون»؛ وثمة كتابات أخرى انشغلت بريادته لهذا العلم، في حين أن الأدق دائماً النظر للجانب الاقتصادي في المقدمة وتناوله الدقيق لمفهوم «المعاش» بتعبيره، حيث أفرد له الفصل الخامس من الكتاب الأول، وعنوَنَه بالمعاش ووجوهه من الكسب والصنائع. ويثير هذا التناول نقاطاً بالغة الأهمية، خاصة في النظر لما بين الرعية والحاكم في هذا الجانب. فقد اعتبر تجارة السلطان مضرة بالرعية، مفسدة لأموال الدولة؛ وذلك لأنه يضايق صغار التجار برأسماله الكثير، فيبيع ويشتري بما يشاء ويبخس سلع غيره، ثم إن السلطان قلَّما يدفع مكوساً فتفرغ بذلك خزينة الدولة، وإن تجارة السلطان تنغِّص على الفلاحين والتجار، فيتركون فلاحتهم وتجارتهم، وهم أكثر من يدفع الجباية ويملأ خزائن الدولة، «فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة، ذهبت الجباية جملةً، أو دخلها النقص المتفاحش». ومن أهم ملامح النظرية الاقتصادية عند ابن خلدون تقسيمه للمعاش إلى فلاحة وصناعة وتجارة وضرائب، وهذه الأخيرة وجه من وجوه اقتصاد الدولة، والربط بين تطوُّر الدولة وزيادة الضرائب، والتأكيد على أن تدخل الدولة في الاقتصاد يؤدي غالباً إلى الظلم، والإشارة إلى أن الانتقال من البداوة إلى الحضارة هو انتقال من الفلاحة إلى الصناعة، التي يرى ابن خلدون أنها أساس العمران. وعمل البعض على تأويل تلك الأفكار بوصفها نظريات متكاملة كتلك التي قدمها مُنظِّرِو الاقتصاد في العصر الحديث أمثال آدم سميث وريكاردو وكينز - كتقسيم العمل والتعاون، ونظرية القيمة والإنتاج، والحرية الاقتصادية، ودور الدولة، في التخطيط الاقتصادي. ومهما تكن طبيعة القراءات ومناهجها التأويلية تبقى حقيقة راسخة، وهي أن مقدمة ابن خلدون كانت ولا تزال نصاً تأسيسياً لا يمكن تفادي أثره في المعرفة الإنسانية.
مشاركة :