أعطى التفاعل الجماهيري الكبير في مهرجان "أفلام السعودية" الذي نظمته جمعية الثقافة والفنون بالدمام، مؤشراً جيداً لمدى قبول المجتمع للفنون التي حُرِمَ منها عقوداً طويلة لأسباب عديدة ليس هنا مجال الحديث عنها، فما يهم الآن هو أن المجتمع كسر حاجز الريبة من السينما وتفاعل بإيجابية مع مهرجان الدمام السينمائي سواء بالحضور المباشر لعروض الأفلام أو برسائل الترحيب والتأييد من عموم الناس في مواقع التواصل الاجتماعي والتي يمكن الاعتماد عليها في قياس ردة المجتمع تجاه حدث كهذا. ومما لمسناه فإن مرور الحدث بسلاسة دون أي منغصات يثبت أن كل مخاوفنا من الفنون كانت مجرد أوهام، ويثبت -وهذا المهم- أن المجتمع السعودي مجتمع طبيعي مثله مثل بقية المجتمعات يحب الفنون ويتذوقها ويحرص على المناسبات العامة التي تتيح فرصة الاتصال والتفاعل المشترك. حتى يتطور الفن فلابد أن يكون حاضراً بين الناس مكشوفاً أمامهم عبر مهرجانات أو حفلات عامة، وما فعله مهرجان "أفلام السعودية" أثبت أن السينما السعودية لا يمكن لها أن تتطور دون اتصال مباشر بالجمهور الذي يقيم ويفرز الجيد من السيىء، وأي انزواء لها في الغرف المغلقة في الاستراحات أو المنازل فهذا يعني ذبولها وفسادها. لقد شاهد الجمهور الأفلام وتحدث عنها وانتقدها بشكل أفاد صناع هذه الأفلام ومنحهم تصوراً لما يجب أن يفعلوه في أعمالهم القادمة. إن رأي الجمهور في أي مكان في العالم هو المؤشر الحقيقي لمستوى الفنان وهو القائد للحركة الفنية، وهذا كان غائباً عنا في العقدين الأخيرين، حيث لا عروض سينمائية بالطبع، ولا حفلات غنائية بعد إيقافها في أكثر من مدينة. ما حدث في مهرجان أفلام السعودية يجرنا إلى ثقافة الاغنية التي أصبحت متنفساً لدى الموهوبين والناس بشكل عام. بتنا نحسد أخواننا الخليجيين في مهرجاناتهم الغنائية المتتالية التي تعتمد على الفنانين السعوديين وقبل ذلك على الجمهور السعودي حيث تقام دائماً في فترة العطل الرسمية للمملكة. لقد استفادت المهرجانات في دول الخليج من إيقاف الحفلات الغنائية العامة في المملكة واستثمرت ذلك ونجحت في استقطاب السعوديين فنانين وجماهير. في السابق كانت الحفلات الغنائية نشطة للغاية في المملكة، كانت هناك حفلات جماهيرية في الرياض والقصيم وحائل والخرج في فترة الثمانينيات، وحفلات في جدة و"مفتاحة" أبها في التسعينيات، وكانت الأغنية السعودية بسبب هذا الانفتاح في أوج تألقها على مستوى الكلمة واللحن والأداء، لكن قيمتها الفنية تراجعت بشكل واضح في السنوات الأخيرة بعد انزواء الفنان السعودي وعدم وجود أي فرصة للقاء جمهوره بشكل علني. والتاريخ القريب يذكر لنا أن رمز الفن العربي طلال مداح -رحمه الله- مات في حفلة جماهيرية في مهرجان أبها الغنائي عام 2000، وقد استمرت حفلات المهرجان بعد ذلك لفترة قصيرة حتى توقفت تماماً، ثم تبعها مهرجان "جدة" الذي كان آخر نقطة اتصال بين الفنان والجمهور، لنعيش بعدها سنوات جدباء من الفن والإبداع، تغيرت بسببها الذائقة وأصبح الشباب والمراهقون سجناء لفضائيات "الهشك بشك" تفسد أذواقهم بأغان رخيصة لا قيمة لها. في تلك الأزمنة الجميلة، حين كانت الحفلات منتشرة في أرجاء الوطن، كان كبار النجوم السعوديين والعرب متواجدين بشكل دائم أمام جمهور كبير لا يقل زخماً ولا عدداً عن جمهور الرياضة. كان الذوق العام في أفضل حالاته وقدمت لنا تلك الحفلات في الرياض وجدة وأبها صورة حقيقية لمدى عشق الناس للفن ورغبتهم في التزود بإبداعات الفنانين الحقيقيين بشكل علني مكشوف. هذا الاندماج بين الفن والمجتمع تلاشى مرة بعد أن توقفت الحفلات والمهرجانات سريعاً. وابتدأت معها هجرة الفنان السعودي إلى المدن الخليجية برفقة الجمهور الذي بات يلاحق فنانه المفضل في كل مكان. المجتمع اليوم تغير تغيراً جذرياً وأصبح الفن جزءاً أساسياً من سلوكه اليوم، حتى أن الأعراس لا تقام إلا بتواجد الفنانين والفنانات، وما نجاح مهرجان "أفلام السعودية" إلا تأكيد لحقيقة أن المجتمع بات جاهزاً ومتعطشاً لعودة المهرجانات الفنية على اختلاف أنواعها، من سينما إلى حفلات غنائية إلى مسرحيات جماهيرية. آن الأوان لأن نعود إلى سابق عهدنا وأن نسمح للفنان السعودي، مغنياً كان أم ممثلاً، أن يتواصل مع جمهوره بشكل مباشر داخل أرض الوطن لا في العواصم الخليجية.
مشاركة :