تتربع قريتنا الجميلة رغدان فوق جبال السروات الشاهقة على مساحة لا تزيد على4 كم2 تقريباً ويزيد من جمالها ما حباها الله من ضباب تهامي دافئ يفترشها أياماً وربما شهوراً وهي تبعد عن مدينة الباحة بكيلوين تقريباً وتنتسب لها غابة رغدان أجمل وأكبر غابة طبيعية في المملكة العربية السعودية ويعرفها كثيرون لكثرة روادها وزوارها من كل مكان خاصة بالصيف. تشتهر قريتنا تلك قديماً بسوقها العريق كل يوم أحد من كل أسبوع، وكم كنا نستمتع ونحن نتجول بين طرقات مساكنها الملتوية وأمام شرفات بيوتها الحجرية البديعة ونتسامر فوق صفيانها الصخرية المنحوتة التي عاش بها أجيال طيبون بقي في ذاكرتي منهم على الرغم من تعاقب السنين إنسان على الأقل، ومن وجهة نظري كنت أراه يختلف عن أهل تلك البيئة المنعزلة حينذاك وهو الأستاذ المعلم والمربي المثقف (محمد بن سعد فيضي) -يرحمه الله- الذي بدأ حياته العصامية بعد الثانوية معلماً ثم مديراً ثم تدرج بعد ذلك إلى أن أصبح مفتشاً في إدارة التعليم بالباحة ولطموحه الثاقب استطاع أن ينقل خدماته لوزارة الشؤون البلدية وعمل بها مفتشاً إلى أن صدر قرار تعيينه رئيساً لبلدية بيشة عام 1406هـ، وظل بها إلى أن تقاعد ثم رجع إلى مسقط رأسه رغدان واختير للعمل في شركة الباحة للتنمية إلى أن وافته منيته عام 1421 هـ. وما دعاني للكتابة عنه -يرحمه الله- إلا أنه كان مثقفاً بارعاً في بيئة مغلقة حيث تشهد له كتاباته المميزة في جريدة المدينة وعكاظ ثم الجزيرة تحت عمود صحفي أسماه مساحة خضراء وليتها تجمع له في كتاب فلقد كان أول كاتب صحفي له عمود أسبوعي في قريتنا إن لم يكن في المنطقة كلها حيث كان يتناول في عموده هذا كثيراً من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والخدمية ولعل من أشهر ما كتب عنه طريق الجنوب الذي استدعي بسببه مراراً وربما أوقف عن الكتابة فترة بسببه. عرفته -يرحمه الله- بين أقرانه حينذاك أنيق المظهر عزيز النفس نقي القلب محباً للخير ساعياً لهما ناصراً لحقوق الضعفاء خدوماً للآخرين سباقاً للألفة والمحبة كما ذكر لي ذلك غير واحد ممن عاش معه ولازم شخصه. إلا أنه كان كمن يعيش في زماننا هذا فلقد كان متمرداً على سلوك مجتمعه الذي خرج من عباءته وكأنه يعيش في زمن غير زمنه ويحلق مع طيور من غير جنسه وذلك قبل أكثر من 60 عاماً ولعله قد أدرك ذلك بطموحه الذي ليس له حدود وبحسه الوطني الذي فاق مداه فسعى إلى ضرورة التغيير والتطوير فساهم مساهمات مؤثرة في حل كثير من المشكلات الاجتماعية وشارك في عديد من النشاطات الثقافية والرياضية فكان بحق رائداً من الرواد الأوائل وعلماً من الأعلام القلائل الذين خدموا المنطقة ساعده في ذلك بصيرته النافذة وأفكاره المحنكة عندما كان يصارع عكس التيار فاستطاع أن ينحت لنفسه مكانة في جسد المعرفة كما نقشه من قبل في ثوب الإعلام على الرغم من الرفاهية الشحيحة وانعدام وسائل الاتصال في ذلك الزمن إلا أنها لم تثن من عزيمته الباذخة في الإبداع والإقناع. أما أنا فلم أنس مكتبته الكبيرة التي كانت تزخر بكتب الحديث والفقه والسير والتاريخ والتراجم والقواميس التي كان يسمح لي بارتيادها بمنزله الفريد والوحيد حينذاك بوادي قوب إلى أن اضطر لبيعها إلى أحد أشقائي لأن عيني كانت عليها. رحم الله أبا صالح فقد كانت له صفات قلما تجتمع في شخص واحد في ذلك الزمن السحيق وهي إن اجتمعت فيه فقد تفرقت في غيره.
مشاركة :