أفرجت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في السابع عشر من يناير 2019 عن دراسة تضمنت أكثر من 1000 مستند رفعت عنه السرية، سلَّطت الضوء على فترة غزو العراق 2003-2011. وحملت عنوان: «الجيش الأمريكي في حرب العراق»، أمر بإعدادها رئيس الأركان السابق، «ريموند أوديرنو» عام 2013. واستمرّ العمل عليها تحت إشراف الرئيس الحالي، «مارك ميلي»، واكتملت عام 2016. تناولت الدراسة، أهداف ومنهجيات وتداعيات الاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة في العراق، وخلصت إلى مجموعة دروس مستفادة؛ قالت إنها كانت وراء عدم نجاح غزو العراق؛ أهمها أن الجيش الأمريكي فشل قبيل انسحابه في تدريب القوات العراقية وتسليحها، وهو الأمر الذي أسفر عن ظهور الجماعات المسلّحة مثل تنظيم «داعش»، كما أنه أخفق في فهم طبيعة المجتمع العراقي وتركيبته الطائفية، الأمر الذي تسبّب في إحداث شرخ في بنية المجتمع، كما تسبّب الانسحاب عام 2011 بعد ذلك في ارتفاع معدّلات العنف والتوترات الطائفية، فضلا عن أنه لم يكن لدى قادته قوات كافية للتغلب على التمرد السني والمليشيات الشيعية المدعومة من إيران، بالإضافة إلى توفير إيران وسوريا ملاذا آمنا للمسلحين الشيعة والسنة، وهو ما لم تضع الولايات المتحدة استراتيجية فعالة لمجابهته. وعلى الصعيد السياسي، فشل الأمريكيون في الرهان على أن العملية الديمقراطية سيكون لها تأثير إيجابي في تحقيق الاستقرار، وتم التعويّل على انتخابات عام 2005 في تهدئة الأوضاع، لكنها -على العكس- فاقمت التوترات العرقية والطائفية في البلاد. غير أن أهم وأدقّ ما استنتجته الدراسة، هو أن «إيران هي المنتصر الوحيد من غزو العراق»، من خلال الدور الذي أدته خلال الغزو، وسيطرتها على المشهد العراقي بعد الانسحاب الأمريكي، خاصة بعد أن حوَّلت الغزو إلى فرصة ذهبية لتحويل التطويق الأمريكي لها إلى قفزة سيطرة استراتيجية في المنطقة، من دون أن يكلفها ذلك شيئا»، فبعد أن حاصرتها واشنطن من الغرب عبر أفغانستان، ومن الشرق عبر العراق، عملت طهران على بناء استراتيجية أُطلق عليها اسم «الدفاع المتقدّم»، والتي تعتمد على أمرين أساسيين: الأول: تمكين حلفائها السياسيين من الحكم، عبر فتاوى أجازت لهم الانخراط في تحالف مع أمريكا، أو إيهامها بذلك». وقد انطلت الحيلة على القيادات الأمريكية التي سلّمت السلطة لهم بعد خروجها من العراق، كما مارست التأثير على الشخصيات التي تتولى مناصب مؤثرة في الدولة والتي يمكنها أن تعمل على تمثيل مصالحها، وبذلك، مُنحت مزيدًا من الاستقلالية لتأكيد وجودها في البلاد. الأمر الثاني: تأسيس شبكة من المليشيات المسلّحة المرتبطة بها؛ تعمل على تنفيذ أجندتها، وتوظّف الفوضى لتحقيق مصالحها، وتقاتل نيابة عنها». وتمكنت هذه القوى من تأسيس موطئ قدم لها على الأرض؛ فأصبحت قوة لا يستهان بها، وهنا ارتكبت القيادة السياسية الأمريكية خطأ؛ تمثل في قرار الحاكم الأمريكي، «بول برايمر»، رقم «91» الخاص بدمج المليشيات في الجيش عام 2004 قبل مغادرته العراق. ومنحت هذه الخطوة إيران، نفوذا مباشرا في الجيش العراقي الجديد؛ وقد أصبح هؤلاء جنودا وضباطا مؤثرين في الجيش لاحقا. وحينما بدأت الحرب الطائفية الأهلية (في أعقاب تفجير ضريح الإمامين العسكريين في سامراء، في فبراير 2006)، انحازت القوات الأمريكية للمليشيات الشيعية، التي كانت تهاجم المناطق السنية في بغداد بضراوة، وتغاضت عن قيام الحكومة المدعومة من طهران بعمليات تعذيب وانتهاكات واسعة ضد السنة». يضاف إلى ذلك، أنه بعد الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011. تركت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، النفوذ في العراق كاملاً لإيران؛ وهو ما ساعد في تصعيد السياسات الطائفية، خاصة في عهد رئيس الوزراء، نوري المالكي، الذي أقام علاقات خاصة مع إيران وصلت بمسؤول كبير مثل «علي يونسي» مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى القول إن «إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت سابقا وعاصمتها بغداد، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما كانت عبر التاريخ». وفي هذا الصدد، يقول «حيدر الخوئي»، في مجلة «الجارديان»، قبل انسحاب أمريكا «أُسست عدة أحزاب للشيعة، ذات مليشيات عسكرية، وقد مُنحت؛ الأسلحة، والتدريب، والأموال والحماية، لتعزيز قبضتهم على السلطة في العراق، في الوقت الذي استفادت فيه إيران من التوترات الطائفية الناشئة في البلاد، لدعم وتقوية مليشياتها الشيعة. ساعد على ذلك التطورات الإقليمية، حيث ظهرت سيطرة إيران بصورة واضحة على مجريات الحرب السورية، والتي أعلنت فيها دعمها لحكومة الأسد، حليفها القديم من خلال توفير الدعم للنظام، وبشكل مباشر من خلال قوات الحرس الثوري الإيراني وعدد كبير من الجماعات التي تعمل بالوكالة، وذلك من أجل تأمين ممر أرضي يُمكنها من خلاله نقل المدد والمقاتلين برا إلى سوريا. واعتبارا، من عام 2014. عززت إيران سيطرتها على كل من المشهد السياسي والأراضي العراقية، والتي كانت مقتصرة في السابق على جنوب البلاد، في ظل صعود تنظيم «داعش»، وهو الوضع الذي سمح لها بتمويل وتدريب المليشيات القادرة على الاشتباك مع التنظيم؛ بما في ذلك منظمة بدر، وكتائب حزب الله العراق، وعصائب أهل الحق، التي نجحت في السيطرة على قوات الحشد الشعبي العراقية، والتي كانت قد أصبحت أقوى كيان عسكري في البلاد. وفي هذا الصدد، يقول، «رانج علاء الدين»، من «مركز بروكنجز»: «في حين أنهم من الناحية الفنية كانوا تحت قيادة بغداد منذ عام 2016. لكن في الواقع، فإن قوات الحشد الشعبي تنفذ توجيهات رعاتها في طهران». ومن موقعهم القيادي، حظيت هذه القوات بنفوذ سياسي كبير أثناء مُحاربة داعش، والتأثير على صياغة وتطبيق التشريعات. وكما أشار «تيم أرانجو»، في صحيفة «نيويورك تايمز»: فإنه، «من الناحية السياسية، يوجد لدى إيران عدد كبير من الحلفاء في البرلمان العراقي، باستطاعتهم المساعدة في تأمين أهدافها». وبحلول عام 2018. كما يوضح «توم أوكونور»، في مجلة «نيوزويك»، «تم دمج قوات الحشد الشعبي رسميا، ضمن صفوف الجيش العراقي، بعد أن عززوا مكانتهم ككيان قوي مؤثر». ولأن العراق، العدو الإقليمي للهيمنة الإيرانية، في أفضل الأحوال كان عاجزا عن مواجهة إيران، التي تملك عناصر أساسية في الحكومة العراقية تعمل لصالحها، لم يشكل أي تهديد يذكر، بل سرعان ما امتد نفوذها المزعزع للاستقرار إلى اليمن، والبحرين، وسوريا ودول أخرى؛ ليؤدي إلى مزيد من التأثيرات الإقليمية. ومع ذلك، وعلى الرغم من أنها لا تزال القوى الأبرز تأثيرا في السياسة العراقية، إلا أنه أصبح واضحا على مدار عام 2018 أن نفوذ إيران بدأ يتضاءل. وفي المقام الأول، بدأت هذه المُتغيرات بنتائج الانتخابات العامة التي أجريت في مايو والتي شهدت تصدر تحالف «سائرون»، تحت رئاسة مقتدى الصدر، الذي شن في السنوات الأخيرة حملة لرفض التدخل الإيراني في الشؤون العراقية. وبحسب مراقبين يشير تفوق «سائرون» إلى تراجع واسع للنفوذ الإيراني في العراق، وهو ما أوضحه «أحمد مجيدار» من معهد «الشرق الأوسط»، من أن «هذا الانتصار قد فاجأ الكثيرين في طهران»، وعليه، حذرت كل من المؤسسات المحافظة والإصلاحية في إيران من أن هذا الفوز سوف يمثل تحديا لمناطق النفوذ السياسي والاقتصادي الإيراني في العراق»، عزز من ذلك تبنّى «الصدر» خطابا قوميا، تعهد خلاله بالتصدي لكل من النفوذ الإيراني والأمريكي. وعلى الرغم من أن الحكومة التي تشكلت في أغسطس 2018 لم تكن تمتلك الجرأة صراحة مثل الصدر وأنصاره، فإنها أثبتت استقلالها نسبيا عن طهران ومحاولاتها للتأثير على السياسة العراقية، وهو ما علق عليه «رانج علاء الدين»، من مركز «بروكنجز» بقوله: «مع القيادة الجديدة الإصلاحية، التقدمية، هناك آمال كبيرة بأن البلاد سوف تتحول إلى عهد جديد». وربما كان أهم ما يحد من قدرة إيران حاليا على تأكيد وجودها في العراق، هو بداية العقوبات المفروضة عليها والتي تقودها الولايات المتحدة، والتي أضحت سارية المفعول في نوفمبر 2018. ويعني تدهور حالة الاقتصاد الإيراني جراء الحظر، أنه بات من الصعب أن تستمر في ممارسة السياسة الخارجية الإقليمية النشطة، بل يمكن القول إن جهودها التوسعية في العراق باتت تتسم بالضعف؛ بعد أن أنهكت نفسها بتقديم مساعدات طوال 16 عامًا، الأمر الذي جعل «جنيف عبده» من «المؤسسة العربية»، تقول إنه «حتى مع توسع الإيرانيين لملامح نفوذهم داخل بغداد، فإن العقوبات الدولية من المرجح أن تمنعهم من تقديم نفس مستوى الدعم والخدمات مثلما كان الحال في الماضي». ولا يخفى أيضًا أن العقوبات الدولية سيكون لها تأثيرها على زيادة الكلفة الخاصة بتزويد طهران، العراق بالطاقة الكهربائية. ولعل ذلك ما دفع «إيفان لانغنهان»، في موقع «وور أون ذا روكس»، الأمريكي، للتأكيد على أن «الهيمنة والسطوة على قطاع الطاقة هي واحدة من أذرع النفوذ الرئيسية لإيران داخل العراق، وأن أي تغييرات سيكون لها آثار على سيطرتها على بغداد وكذلك ديناميكيات القوة الإقليمية». ولعل هذه الضغوط المتصاعدة على إيران هي ما توفر فرصة سانحة أمام جهات أخرى للدخول كمنافس. وربما تكون الدول الخليجية هي الأكثر حظا في هذا الشأن، ولا يعود السبب في ذلك إلى مجرد سعي هذه الدول للحد فقط من سياسة إيران الخارجية التوسعية في ضوء التهديد الذي تشكله لأمنها القومي، ولكن أيضًا لأنها القوى الإقليمية الوحيدة القادرة على شغل هذا المكان. وحسبما تقول «لانغنهان»، في الوقت الحاضر تعد السعودية، الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تمتلك «الموارد اللازمة» لتزويد العراق بالطاقة الكهربائية التي يحتاج إليها، ومن ثم تقليص سيطرة إيران، ودعم الاستقرار السياسي في العراق». وقد أثبتت السعودية، إلى جانب الكويت، قدرتها على تحدي إيران بهذه الطريقة خلال صيف عام 2018. عندما استطاعا أن يعوضا مدينة البصرة العراقية خلال نقص الوقود عندما أخفقت إيران في ذلك من خلال إمداداتهما النفطية الخاصة. ووفقًا لما قالته «نسيبة يونس» من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، فإنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة والسعودية ودول أخرى يمكن تحويل مسار انتصار إيران في العراق، من خلال «البدء في التعاون مع العراقيين عبر الأطياف السياسية المختلفة حول القضايا ذات الأولوية، وعرض المساعدة في توفير الخدمات الأساسية» من أجل استعادة النفوذ الذي بدأت طهران في فقده». على العموم، على الرغم من أن الدراسة تشير إلى أن إيران لم تعد الرابح الوحيد الآن في العراق، بعد أن أصبح نفوذها يواجه بعض العقبات في البلاد منذ عام 2018. وذلك جراء مزيج من الرفض السياسي المحلي للوجود الإيراني والتطورات الخارجية، فإنها تظل في الواقع لاعبًا مهما في العراق وتتمتع بدرجة من التأثير. ويتضح هذا التأثير بالمقام الأول في الاتصالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، والمليشيات الشيعية، ولعل أهمها ما يتعلق بقوات الحشد الشعبي العراقية.
مشاركة :