جان سيناك.. لَعينُ الضفَّتين

  • 3/14/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

وأخيراً صدرت الأعمال الشعرية الكاملة لجان سيناك عن دار «أكت سود» الباريسية. ونقول «أخيراً» لأن هذا العملاق ترك خلفه نصوصاً مجيدة لم تسمح ظروف نشرها السابقة بتقييمها كما تستحق. وبتجاورها اليوم داخل مجلدٍ ضخمٍ واحد، بات بإمكاننا ليس فقط الإحاطة بعملٍ شعري فريد من نوعه وسيرورة تطوّره، بل أيضاً استنتاج ضرورته القصوى في زمننا الفصامي الراهن «شاعر جزائري بحرفٍ فرنسي»، كما كان يحبّ أن يُعرِّف بنفسه، وُلد سيناك في بلدة بني صاف (ولاية وهران) عام 1926 واغتيل بيد الإرهاب في مدينة الجزائر عام 1973، أي عشرين عاماً قبل أن يلقى صديقاه الشاعران طاهر جاووت ويوسف سبتي المصير نفسه، باليد نفسها. اغتيال تنبّأ به عام 1971 بقوله في إحدى قصائده: «حانت ساعتكم لصرعي، لقتلي/‏‏ فيَّ حرّيتكم»، ثم قبل شهرين من تلك الساعة المشؤومة، في 12 قصيدة تختم أعماله الشعرية وتشكّل بدورها إعلاناً بموته القريب. مقاتل لا يتنكّر لنفسه ولم يخطئ الباحث حميد ناصر خوجة، في أطروحة الدكتوراه التي وضعها حوله، بملاحظته أن هذه الأعمال تجسّد «بطريقة نموذجية سواء التقاطعات الثقافية أو الصراعات والتشنّجات التاريخية التي تشكّلت الجزائر منها». فداخلها نعثر على قصة ثورة الجزائريين على المستعمِر الفرنسي، على القمع الذي رافق هذه الثورة وتبعها، ثم على مرحلة فقدان الأوهام. وصاحبها هو فعلاً وجه هذه الجزائر التي لطالما بحثت عن نفسها ــ ولا تزال ــ في قلب الأنقاض، مثيرةً كل الآمال، مهدهِدةً الوعود، ومسائلةً بلا كلل مفهوم الثقافة الوطنية ووظيفة الشاعر. ومع أن هذا البلد خيّب أمل سيناك، لكن على أرضه التي هي «أرضي» قال الحب والألم، المتعة والكآبة، العناق والهجران، الجسد والدود، الابتهاج و«الجرح المفتوح». وحتى تلك الليلة التي طعنه سكّين الغدر فيها خمس مرّات، لم يتوقف عن مناداة ومناشدة وبكاء «أمّنا الجزائر، حبّنا الدؤوب»: إن كان إنشاد حبّي يعني حبَّ وطني فأنا مقاتل لا يتنكّر لنفسه. في القلب أحمل اسمه مثل باقة قرّاص. أشاركه سريره وأسير بخُطاه. على الشواطئ يموٍّه الصيفُ البؤسَ وكمّاً من البطون الجائعة التي لوّحتها الشمس. في المدينة يعانق المساءُ اللبلابَ شوك الألم، تلك الوجبة الوحيدة. مثل أوسكار وايلد وفيديريكو غارسيا لوركا اللذين بجّلهما، كان سيناك موضوع لعنة من جهتيّ المتوسّط، على رغم سعيه الثابت إلى مصالحة الضفتين، بشخصه وشعره. الفرنسيون لم يغفروا له انخراطه في «جبهة التحرير الوطنية» خلال ثورة الاستقلال، والسلطة الجزائرية لم تتقبّل مواقفه السلبية تجاه نظامها البيرقراطي. لكن هذا الشاعر أزعج أكثر من الطرفين المذكورين بالتزامه، وفقاً لشهادة أحد أصدقائه، سلوكاً فضائحياً وتحريضياً ثابتاً. فسواء في حياته اليومية أو في تصريحاته السياسية والثقافية، قض مضجع الكثير من الناس. وبالتالي، كثر هم الذين كان لهم مصلحة في اغتياله. مناضل إنسانَوي طوال حياته، جمع سيناك داخل شعره النضال الإنسانوي الثوري والجمال، الحب والغضب، لاقتناعه بأن «قصائدنا، إن لم تكن أيضاً سلاح عدالةٍ في يد شعبنا، فلنخرس»: «الجمال رَدْبٌ السنونوة كلمةٌ لا تفتح الأبواب إن لم يوقف الشعرُ الدم» لكن لا دوغمائية لديه إطلاقاً، كما يشهد على ذلك قوله: «لا تجمّدوا أبداً شاعراً في بيته الشعري. الشاعر متحرّك، ووهجه العجيب يمتد من القيثارة إلى الأحشاء»؛ أو قوله الآخر: «لا ينتمي الحب إلى أي حزب». ومن هذا المنطلق، اعتبر صاحب «ديوان النون» أن الشاعر محكوم بقول كل شيء، بالإفصاح عن العالم، انطلاقاً من الجنين الذي حُفِر على جلده كل شيء. لكن أن نكتب، بالنسبة إليه، هو أن نفكّك الرسالة الكامنة فينا، أن نمنحها ترتيباً ونردّ إليها نارها. أن نقتلع الجسد من ظلماته ونمنحه داخل المفردات فضاء نقلٍ. وخصوصاً أن نبتكر، لأنه «ما أن تتناغم كلمة مع أخرى حتى تضع الميثة صورةً بنفَسٍ دائم». وفي هذا السياق، نظر سيناك إلى الشعر كجواب على تخفّيات العالم الزائفة، ومارسه بوصفه التعبير الأكثر حميمية وحدّة عن الكائن، مدركاً سلطة الكلمات وجرأة القصيدة وقدرتها على المجازفة. وبالتالي، أن نكتب، وفقاً إليه، هو أيضاً أن نردّ دائماً على شخصٍ ما، حتى وإن كان هذا الشخص صنونا الأسوَد الذي يقبع داخلنا ويضطهدنا، متطلّباً منا تحوّلات دائمة. وهكذا كتب سيناك طوال حياته، باحثاً عن «جسدٍ كلّي»، عن أقنومٍ يمتزج داخله جلدنا وروحنا من أجل بلوغ نشوة لا قياس لها. ولأنه ككاتب لم يرض أبداً عن جماليات نصّه، وجعل من معيشه لوحةً خلفية لعمله الشعري، لكن ليس من دون قلقٍ عظيم، بسبب عزلته كعازب، وبحثه عن الأب المجهول وعن مطلقٍ يتعذّر تحديده؛ تشكّل قصيدته دعوة دائمة إلى مراجعة الذات، وفي الوقت نفسه، إلى الاحتفاء بروعة الحياة وملذّاتها، بجمال الجنوب وجمال جسدٍ يانع ومرغوب. عملٌ شعري مكرَّس إذاً للرغبة والاستبطان الحميمي: «تتناغم مع حضورك إلى حدّ إضرام المقاطع الصوتية لُهُباً على خاصرتيك»؛ مرصودٌ للغوص في أعماق الكينونة وتملُّك فضاء الجسد الحيّ الذي يتعذّر فصله عن الكلمة: «ملامَسةٌ. غداً تولّدني ذاكرةٌ». وفي هذا السعي إلى فتح ذلك الفضاء، تولد قصيدة سيناك وتكتسح إيروسيته كل شيء: «انتصاب. أكتب معلّقاً داخل دوّارٍ على عنقك» حرية وحب وأخوّة باختصار، ومثل بازوليني الذي عرف المصير نفسه، دعا سيناك إلى الثورة من أجل الحرّية والحب والأخوّة. ومع أنه اختبر حياةً مريرة في الجزائر، لكنه وقف دوماً إلى جانب ناسها الوضعاء: «أبداً لن أغادر هذا البلد الذي بذلتُ فيه الكثير من نفسي»، كتب قبل عام من موته. بذلٌ يتجلّى خصوصاً في التزامه بضراوة قضية الشعب الجزائري وانخراطه في صراع هذا الشعب ضد المستعمر الفرنسي، علماً أن الدور السياسي الذي اضطلع به يختلف عن ذلك الذي أدّاه بازوليني في إيطاليا في الفترة نفسها تقريباً. فبينما ولّد اليأس لدى هذا الأخير حاجة ملحّة إلى الشجب والإدانة، صبغت مثالية سيناك توقه إلى العدالة. لكن مثل صاحب «رماد غرامسي»، نستشفّ في نصوصه قوته كخطيب وميله إلى التحريض اللذين لا تلطّفهما سوى رقّة شهوانيته وشغفه الشمسي بأخوته البشر. ولعل هذه الرقة وهذا الشغف هما ما يفسّر قيام بعض النقاد ومحبّيه بتحويله إلى أيقونة أو رمز. لكن شخصيته أكثر تعقيداً من ذلك ولا يمكن بالتالي اختصارها بهاتين الصفتين. فهنالك أيضاً بحثٌ أوّل هجس سيناك به منذ نعومة أظافره من دون أن يتمكّن من إشباعه، ونقصد ذلك البحث عن أبٍ له الذي يفسّر علاقاته النزوية والعاصفة بأصدقاء كانوا يكبرونه سنّاً وبجّلهم كآباء بديلين قبل أن يبتعد عنهم، مثل ألبير كامو، أو تماثله ببول فرلين إلى حد تبنّي مظهره الخارجي. هنالك أيضاً إشكالية هويته نظراً إلى ولادته من أب مجهول اغتصب أمّه وتوارى عن الأنظار، وإلى اختياره باكراً، وبراديكالية وبصيرة، الوقوف في صفّ الجزائريين ضد فرنسا على رغم انتمائه إلى طائفة «الأقدام السوداء» (مستوطني الجزائر الأوروبيين)، وبالتالي مسيحيته وعدم تكلّمه العربية. وحول هذه الإشكالية الهوياتية ورغبة سيناك في انتزاع من أبناء وطنه اعتراف به كجزائري، يقول ناصر خوجة: «لم يكن ممكناً لجزائريته العاطفية أن تتجذّر في تقليد هذا البلد. كانت قيمه الشخصية مختلفة جداً عن قيَم المجتمع الذي كان يعيش فيه. من هنا انعدام التوازن وعدم التأقلم الفاضحَين، على رغم صُدقٍ داخلي مُبلبِل. اعتقد سيناك بأن اختياره الأمة الجزائرية كان كافياً كي يكون جزائرياً. كانت جزائريته مبنية على ولادته وإقامته في الجزائر ونشاطه الوطني السابق، وليس على إجراء قانوني أو أي شيء آخر». ولذلك، حين انتقد الخط السياسي للسلطة السياسية في وطنه انطلاقاً من عام 1967، فقد مكانته ورُميت في وجهه قرابته من الرئيس السابق أحمد بن بلّة وكونه من «الأقدام السوداء» وشاعراً تحرّرياً مثلياً. لكن التجاوزات والانحرافات التي ميّزت نظام هواري بومدين لم يعانِ سيناك وحده منها، بل طاولت كتّاباً ومفكّرين وفنانين جزائريين كثيرين، مثل محمد ديب ورباح بلعمري وجمال الدين بن شيخ الذين فضّلوا مغادرة وطنهم إلى فرنسا، بينما قرر سيناك البقاء ومواجهة القيود على الحرّيات التي فرضها النظام المذكور، بسلاح كلمته الشعرية فقط. وفعلاً، بعد نصوصٍ شعرية أولى تحمل آثار ورعه المسيحي وتأثّره بالشاعر فرلين، لن تلبث كتابته أن تشحذ «أسلحتها» الخاصة تحت تأثيرات أخرى جوهرية، نذكر منها الشعر العربي الكلاسيكي، لوركا، أنتونان أرتو، رونيه شار، والت ويتمان.. لكن من دون أن يمنعه ذلك من متابعة إنشاده الشمس والبحر والمشهد المتوسّطي وطبعاً الجزائر: «كل شيء هنا بجلدٍ أسمر ــ مشمشةٌ حلوة مثل حمّى ــ وضعت التحسّرات على شفتيّ غذاءَ صيفٍ ». فلأن الشعر هو الذي أيقظه على العالم والحياة، بقي مشدوهاً أبداً أمام جمال الطبيعة، أمام الطفولة، أمام الحقيقة التي يسيّرها عملٌ شعري أو فني أصيل، وأمام روعة جسدٍ تحت أشعة الشمس؛ وشكّل الشعر بالنسبة إليه مطلقاً، وفي الوقت نفسه، الحياة بكل تفاصيلها، بما في ذلك تلك المؤلمة. وعلى ضوء هذه الوضعية الفريدة، يتوجّب، بعد أكثر من أربعة عقود على رحيله، قياس أهمية حياة وأعمال ذلك الذي كان يسمّي نفسه «يحيى الوهراني»، ويردّد بلا كلل: «لم أولَدُ للشكوى ولا كي تنكسر الوردة عند نشيدي. ألقُ النهار كنت أحمله في قبضتي ــ صقر أحلامي الناضج».

مشاركة :