لقد وقف العلماء مواقف متباينة من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ما بين جامدٍ وجامح؛ فالجامدون يرون أنه إقحام للقرآن في غير بابه، وأن القرآن ليس في حاجة إلى الاستدلال بالنظريات العلمية تأكيدا على صدقه، على اعتبار أن القرآن ساعتها سيكون محكومًا عليه من نظريات ظنية أو مكتشفات بشرية. والجامحون يرون فيه بابًا جديدًا لإقناع غير المسلمين بالإسلام، وحجة على المخالفين ممن يتهمون القرآن بأنه كتاب لا يصلح إلا لأزمنة غابرة، لكن آفة هذا الرأي أنهم توسعوا فيه بلا قيد. ونحن لسنا مع هؤلاء الجامدين ولا مع أولئك الجامحين، بل نقف موقفًا وسطًا بين الفريقين، كما هي طبيعة الإسلام. وهنا، من الضروري أن نعرف أن هناك أشياء أخبر القرآن الكريم بها وقت تنزُّلها، وقد فهمها العرب على قدر معطيات زمانهم، كما فسرها المفسرون القدامى على أساس اللغة فقط، دونما نظرٍ إلى الحقائق العلمية الثابتة وفي ضوء المعارف الحديثة. والحق أن اللغة وحدَها غيرُ كافية لفهم الآيات القرآنية التي بها إشارات علمية، إذ لا بد معها من إلمام بحقائق العلم الحديث التي تعضدها وتقوي موقفها؛ لأننا في عصر علا فيه صوت العلم وصار يُحتكم إليه عند الخلاف. يقول المستشرق الفرنسي المسلم (موريس بوكاي): «إن المعارف اللغوية المتبحرة لا تكفي وحدها لفهم هذه الآيات القرآنية، بل يجب بالإضافة إليها امتلاك معارف علميةٍ شديدة التنوع» (1). لكن الإشكالية التي نعاني منها الآن هي مدى التوسع في هذا الباب، وتفسيرُ معظم آيات القرآن على أساسه، وغالبًا ما يكون في التفسير تعسف وخروج بالآية عن مرادها، واستعارة النظريات العلمية من هنا وهناك وهنالك لحشد الأدلة - وإن ضعُفت - على كثرة الإشارات العلمية في القرآن الكريم والتأسيس لعلم جديد يسمى «الإعجاز العلمي»، ويتأزم الموقف إذا كان المستند في هذا التفسير على الظنيات العلمية التي لم لم تزل -حتى الآن - محلَّ خلاف. وهذا ما أيده الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - بقوله: «وهؤلاء أطلقوا المسائل على عواهنها، وفتحوا الباب على مصراعيه من دون تمييزٍ بين حقائق العلم وأوهامه، فهجموا على التأويل من دون دراسة واندفعوا وراء الظنون العلمية يطبقونها على الآيات القرآنية معتقدين أنهم بذلك يقربون بين العلم والدين ويدعون إلى الإسلام في الأوساط العلمية والثقافية، وينسوْن بذلك أنهم يضرُّون ولا ينفعون» (2). والإنصاف العلمي يقتضي أن نقول: إن الإعجاز العلمي للقرآن الكريم فتحٌ جديد يمكن للدعاة استخدامه في مجال إقناع غير المسلمين، وإثبات أنه ليس من صناعة البشر وإنما هو وحي من عند الله تعالى، وذلك مجال خصب وحقل بكر يجد فيه الدعاة إلى الله بُغيتهم، ولكن ليس بهذه الصورة التي تكاد تجعل من القرآن كتابًا علميا خالصًا. ومن المبالغات أن أحدهم صنف تفسيرًا للقرآن لهذا النوع فقط من الإعجاز، وهو تفسير الشيخ «طنطاوي جوهري». ولعل اندفاعه واستنتاجاته وآراءه التي بالغ فيها أحيانًا، هو الذي جعل بعض الجهات يرفضون تفسيره إلى يومنا هذا، ولم يُكتب له الذيوع والانتشار في الأوساط العلمية. ومن تلك المبالغات استشهاده بما يسمَّى بالتنويم المغناطيسي وتحضير الأرواح وغيرها من الأمور التي ليس لها علاقة بالتفسير لا من قريب ولا من بعيد. ضوابط التفسير العلمي للقرآن: وقد وضع العلماء ضوابط للتفسير العلمي للقرآن الكريم، وهي: 1- مطابقة آيات القرآن للحقائق العلمية الحديثة. 2- عدم التناقض مع مقررات العلم الحديث. على أنه يجب التنبيه على أمرٍ مهم، ألا وهو أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تتعارض حقيقة علمية مع آية قرآنية؛ لأن كليهما من مصدر واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، فإن تعارضا في الظاهر فيجب التسليم للآية القرآنية حينئذ. 3- عدم العدول عن الحقيقة إلى المجاز: فينبغي عدم المبالغة في التأويل وفتح باب المجاز على مصراعية، «فلا نحمِّل الألفاظ فوق ما تطيق، ويجب عدم الصرف عن الظاهر إلا لضرورة تقتضي ذلك، أو في حالة استحالة المعنى الظاهر. وبهذا يكون الإعجاز العلمي عُدة المسلم في الدعوة إلى الله تعالى، كما يُعد الوسيلة الفعالة لإقناع غير المسلمين. (1) موريس بوكأي: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم.. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ط4 دار المعارف، مصر، ص146. (2) الشيخ محمد الغزالي: كيف نتعامل مع القرآن، ط7. نهضة مصر، القاهرة، ص202.
مشاركة :