كما فاجأت الولايات المتحدة الأمريكية «حلفاءها» الجدد، وهم أكراد سوريا، بقرار سحب قواتها من الأراضي السورية تنفيذا لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد «هزيمة» ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، واعتبار الأكراد هذا القرار بمثابة «خيانة» و«طعنة في الظهر»، فإن استجداء الأكراد للأمريكان والأوروبيين للإبقاء على قواتهم أو جزء منها في شمال سوريا، خشية من أن تستغل تركيا هذا الفراغ العسكري الذي سيخلفه الانسحاب، وتصفي حساباتها مع الجماعات الكردية السورية المسلحة التي تعتبرها أنقرة جماعات «إرهابية» تلتقي في الأهداف والتوجهات مع حزب العمال الكردستاني التركي الذي يخوض صراعا دمويا مع الجيش التركي منذ عدة عقود خلف على أثره عشرات الآلاف من القتلى والجرحى في الجانبين من دون أن يتمكن أيٌ من الطرفين من تسجل نتيجة حاسمة حتى الآن. في هذا السياق نقل عن القيادي الكردي ألدار خليل القول بأن «الدول الأوروبية لديها التزامات سياسية وأخلاقية.. إذا لم يفوا بها، فهم يتخلون عنا»، مضيفا أنه «إذا لم تفعل الدول الأوروبية والولايات المتحدة شيئًا، فسنكون مجبرين على التفاهم مع دمشق لترسل قوات عسكرية إلى الحدود لحمايتها»، بمثل هذه المواقف يكرر الأشقاء الأكراد أخطاءهم ويبدو أنهم لم يتعلموا حتى الآن أي درس من هذه الأخطاء، الأمر الذي ينم عن جهل مدقع بدهاليز السياسة وسطوة مصالح الدول والطرق التي تسلكها والمبادئ التي تحكم علاقاتها مع مختلف الأطراف، سواء كانت دولا أم أقليات عرقية أو دينية. قول القيادي الكردي بأن لدى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية «التزامات أخلاقية»، ونسي هذا القيادي أن السياسة لا تعترف بالأخلاق وإنما بالمصالح، والمصالح فقط من دون سواها، فأينما وجدت مصالح لهذه الدولة أو تلك تحركت سياسيا وحتى عسكريا بغض النظر عن مدى ما قد ينجم عن هذا التحرك من إراقة للدماء وإزهاق لأرواح الأبرياء، ثم إن التجارب كلها تفضح ما يتحدث عنه القيادي الكردي فيما يتعلق بالدول الأوروبية وأمريكا بالنسبة للالتزامات السياسية والأخلاقية، فهذه الدول أثبتت من خلال التجارب التي خاضتها وعلاقاتها بالصراعات التي دخلت طرفا فيها، أنها تسعى وراء مصالحها الخاصة فقط. فالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية نفسها التي يتحدث عنها القيادي الكردي، هي الأطراف التي باعت أكراد العراق وهم الاستقلال حينما حالت دون دخول القوات العراقية إلى إقليم كردستان وفرضت حظرا جويا على الطيران مكنت من خلاله أكراد العراق من تأسيس «دولة» داخل الدولة العراقية الأم، الأمر الذي شجعهم على التوجه نحو الاستقلال التام عن العراق فأجروا استفتاءهم المشهور الذي جلب عليهم غضب وعقاب جميع الجيران وكذلك أشقائهم العراقيين، فيما وقفت الدول الداعمة والمؤيدة، علنا أو سرا تتفرج على خيبتهم، والأمر نفسه ينتظر الأكراد السوريين إن هم تمادوا في التعويل على دعم القوى الغربية لتطلعاتهم المشبوهة. من المؤسف حقا أن يلجأ أكراد سوريا إلى العزف على أوتار رخوة لا يمكن أن تعطي لحنا مسموعا ومقبولا في المحيط الذي يعزفون فيه، فتارة يعزفون على وتر البطش التركي لاستجداء الدعم الأمريكي والأوروبي، وتارة أخرى يلوحون بورقة العودة إلى العلاقة مع النظام السوري غير المرغوب فيه من قبل تلك الدول، وهم بكل تأكيد لن يجنوا ثمرة واحدة من وراء هذه السياسة الخاطئة، فالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية ليست لديها التزامات، وإنما لديها حسابات سياسية خاصة بها متى ما استطاعت أن تنجز هذه الحسابات فسيكون لها موقف آخر من الأوضاع في سوريا، كما هو الحال مع الأوضاع في الدول الأخرى التي دخلت طرفا مؤثرا فيها. ترتكب القوى السياسية أخطاء فادحة عندما تسلم مصير مصالحها الوطنية إلى قوى خارجية، كما هو الحال مع أكراد سوريا، وكما حصل مع جميع القوى السياسية العراقية التي ناهضت نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وكذلك الحال مع القوى الليبية أثناء صراعها لإسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي، بمثل هذه السياسة ارتكبت تلك القوى أخطاء جسيمة جاءت كلها على حساب المصلحة الوطنية العليا، فالتحالف مع القوى الخارجية واستجداء تدخلها في الشؤون الداخلية للوطن، يرقى إلى درجة الخيانة، أيا كان الموقف من النظام السياسي القائم، ذلك أن القوى الخارجية لن تقدم على دعم هذه القوى واحتضانها إلا من أجل مصالحها الخاصة، وعلى حساب مصالح الشعوب بالدرجة الأولى، وهي النتائج التي أثبتتها الأحداث الجسيمة التي شهدتها أكثر من دولة عربية. فالأكراد السوريون حين يطالبون بوجود عسكري أمريكي وأوروبي فوق أراضي وطنهم من دون أن يضعوا أي اعتبار لقيمة السيادة الوطنية وقدسيتها، إنما هم يكررون أخطاء غيرهم ويضعون مصالحهم ومصالح شعبهم بجميع مكوناته العرقية والدينية عرضة للضياع، فالقوى التي يطالبونها بالإبقاء على قواتها في سوريا، لم تأت إلى أرض الشام من أجل سواد عيون الأكراد ولا من أجل مصلحة الشعب السوري بشكل عام، وإنما جاءت سعيا وراء تحقيق مصالح سياسية ذات أبعاد استراتيجية تدخل في نطاق الصراع العام على حماية هذه المصالح والدفاع عنها. فحماية مصالح الأقلية الكردية أو أي أقلية في سوريا، عرقية كانت أم دينية لا تتحقق من خلال اللجوء إلى القوى الخارجية، وخاصة أن القوى التي يخاطبها الأكراد السوريون هي قوى ذات غرائز استعمارية وإمبريالية، هذه المصالح يمكن تحقيقها فقط من خلال البقاء في حضن الوطن والسعي الوطني الصادق من أجل إقامة نظام سياسي يؤمن بالمواطنة الحقيقية وبالحقوق المتساوية لجميع المكونات من دون أي اعتبارات عرقية أو دينية، خلاف ذلك فإن التعويل على القوى الخارجية هو ركض وراء السراب.
مشاركة :