آراء متنوعة تستمع لها وتقرأ بعضها في وسائل التواصل الاجتماعي، حول برنامج "موسم الشرقية"، والحفلات الموسيقية المزمع إقامتها في مدينة القطيف، شرق المملكة. هنالك المؤيدون للأمسيات الغنائية، ممن يعتبرون أنها جزء من التربية الجمالية، وذائقة المجتمع، ونشاط ترفيهي ثقافي، من حق المواطنين أن تحظى بفرصته. آخرون يرون أن هذه الحفلات فعلٌ محرم، مخالف لأحكام الشريعة، وبالتالي فإن معارضتها بالنسبة لهم موقف مبني على منظومة فقهية، يعتقدون صحتها. تباين وجهات النظر أدى إلى حدوث نقاشات عدة، في مجموعات "واتس آب"، أو المجالس العامة. وراح الكثيرون يستعيدون فيديوهات ومحاضرات قديمة، تحذر من خطر الموسيقى والغناء والاختلاط. "الفقه" هنا يحضر بوصفه حاميا لـ"الهوية". تلك "الهوية الجمعية" التي يعتقد البعض بوجودها، وبوجوب الحفاظ عليها نقية من أي شائبة، لأن في ذلك سلامة المجتمع، وصون له من التفلت، ومن فِتنِ الزمان. في المقابل، برزت وجهات نظر، تعتبر أن لا وصاية على المجتمع من أي أحد. فـ"المجال العام" هو فضاء مشترك للجميع، لا يمكن اختزاله في فكر معين، أو فقهٍ محدد. فحتى "الدولة" وفق المفاهيم الحديثة، ليس لها وصاية على "المجال العام"، وإنما هي منظمة وحامية له بقوة القانون، وحسب. أصحاب هذا الرأي، لا يرون ضيرا في إقامة الحفلات الموسيقية، بل يشجعون عليها، لما في ذلك من إرساء لفكرة التعدد المجتمعي، وتعميم لثقافة "الحياة". هذا النقاش بين أوساط الجمهور العام والمثقفين في محافظة القطيف، هو صورة مصغرة عن نقاش أوسع في المملكة العربية السعودية، حول نشاطات "هيئة الترفيه"، ومدى انسجامها مع التقاليد السائدة. وهي العادات التي يعتقد جمهور من الناس أنه يجب الذود عنها، وترسيخها بين الأجيال القادمة. فيما يرى آخرون أنها مجرد تجربة بشرية، لا قداسة لها، وهي قيمٌ تتبدل باختلاف الزمان والمكان. بداية، يجب أن نؤسس لمبدأ مهم، وهو "الحرية الفردية". أي أن حضور هذه الأمسيات من عدمه، هو جزء من حرية الإنسان، ليس لأحد يدٌ عليه في قراره. لأن الناس لهم تمام الحق في اختيار أسلوب الحياة الذي يناسبهم، دون إكراهات، أو ترهيب، باسم الحداثة والعلمانية كان، أو باسم الدين والمحافظة. ثانيا، ليس من حق أي صاحب وجهة نظر، أن يسم من يختلف معه، بأوصاف "قدحية"، ويجعله في مرتبة أدنى منه!. المؤيدون لحضور الحفلات، لا يليق بهم أن ينعتوا المعارضين بـ"الرجعية". كما أن المنتقدين للأمسيات الفنية، لا يصح لهم رمي الحاضرين بـ"التفسخ"!. فاحترام التعددية والاختلاف في وجهات النظر، شرط لتحقيق الحوار الفعال بين المشاربِ المختلفة. في ذات السياق، على المختلفين أن يعوا بأن "الاجتهاد" باب واسع. وأن هنالك قراءات فقهية وفكرية متنوعة، كل واحدة منها لديها أدلتها الناهضة. ما يعني أن التجارب البشرية لا نهائية في أفكارها، وما تصل إليه من نتائج. ولا مفر من القبول بهذه الحقيقة العلمية والكونية التي هي واقع قائم في المجتمع السعودي، الذي يضم العديد من التيارات الفكرية. الجدل المجتمعي هو في عمقه نقاش يطال مفاهيم "الحرية" و"الهوية" و"الذات" و"الإيمان"، وأثر كل ذلك على التدين الخاص، والجو الديني العام الذي يروم الفرد العيش فيه، أو يعتقد أنه البيئة المثالية التي يجب العمل على إنجازها. المجتمعات الأوروبية، ومن خلال عملية "التنوير"، وعبر الفصل بين الكنيسة والدولة، وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، والدولة المدنية الحديثة، استطاعت التأصيل فلسفيا، لكثير من القضايا التي هي محل جدال في المجتمعات الخليجية والعربية، اليوم. لن تجد هنالك جدل في النمسا أو ألمانيا، مثلا، حول حق الفرد في اختيار طريقة عيشه، أو أفكاره، أو إيمانه، أو التعبير عن ذاته ورأيه بالطريقة التي يراها، طالما التزم القانون، الذي هو نتاج تجربة المجتمع والدولة معا. لأن هنالك مرجعية "مدنية" أتت بعد تجربة مريرة، وصراعات، وحروب، وثمن باهظ!. إذا أمعنا النظر، سنجد أن الترفيه في المجتمعات الحديثة، جزء من صناعة الحضارة، وأحد أساليب التعبير عن الذات، ومنهج تجريبي، تمارس من خلاله مختلف أشكال الفنون والمعارف والتقنيات المختلفة، التي بقدر ما تسلي المجتمع وتضحكه، تعمل على تنميته وتثقيفه، وأيضا نقده وتعريته، والفخر به والسخرية منه في آن معا!. في السعودية هنالك تغيير اجتماعي وثقافي، يتم بوتيرة سريعة لم يعتد عليها الناس. والحيرة أو الممانعة التي يبديها جزء من المجتمع أمر مفهوم، لا ينبغي القلق منه، أو رفض الاستماع إليه. فالحوار بين الأفكار هو السبيل الأمثل لترسيخ المفاهيم الحديثة، بين أفراد المجتمع. الطريق طويلة – محليا- نحو الوعي بأن الفضاء الحر هو أفضل بيئة يمكن للمؤمنين أن يمارسوا فيها إيمانهم، ويستطيع من خلالها الإنسان أن يعيش بكرامة، وأن يختار ما يشاء بملء إرادته، فلا أحد يجبره على الذهاب لممارسة ترفيهه أو فنه أو عمله أو عبادته. لأن جميع الخيارات أمامه متاحة، وهو ينتخبُ منها بوعي ما يناسب شخصيته. إن الهوية ليست ذاتا جامدة، وإنما هي مفاهيم تتشكل من خلال التجريب المستمر. والتقاليد والعادات ليست إلا طارئا ثقافيا لمجتمع عاش قبلنا، له ظروفه الخاصة، ولنا حيواتنا التي علينا أن نشكل من خلالها أفكارنا، التي نستطيع فيها أن نبني مجتمعا حديثا متعددا، حرا، متقدما، يحترم الثقافة والفنون والموسيقى، ولا يقف منها موقف الخائف المرتاب.
مشاركة :