آراء متنوعة تستمع لها وتقرأ بعضها في وسائل التواصل الاجتماعي، حول برنامج "موسم الشرقية"، والحفلات الموسيقية المزمع إقامتها في مدينة القطيف، شرق المملكة. هنالك المؤيدون للأمسيات الغنائية، ممن يعتبرون أنها جزء من التربية الجمالية، وذائقة المجتمع، ونشاط ترفيهي ثقافي، من حق المواطنين أن يحظوا بفرصته. آخرون يعتقدون أن الحفلات الغنائية، فعلٌ محرم، مخالف لأحكام الشريعة، وبالتالي فإن معارضتها بالنسبة لهم موقف مبني على منظومة فقهية، يرون صحتها. هذا النقاش بين أوساط الجمهور العام والمثقفين في محافظة القطيف، هو صورة مصغرة عن نقاش أوسع في المملكة، حول نشاطات "هيئة الترفيه"، ومدى انسجامها مع التقاليد السائدة!. بداية، يجب أن نؤسس لمبدأ مهم، وهو "الحرية الفردية"؛ أي أن حضور هذه الأمسيات من عدمه، هو جزء من حرية الإنسان، ليس لأحد وصاية عليه في قراره. لأن الناس لهم تمام الحق في اختيار أسلوب الحياة الذي يناسبهم، دون إكراهات، أو ترهيب باسم الحداثة أو المحافظة. ثانياً، ليس من حق أي صاحب وجهة نظر، أن يسم من يختلف معه، بأوصاف "قدحية". المؤيدون لحضور الحفلات، لا يليق بهم أن ينعتوا المعارضين بـ"الرجعية". كما أن المنتقدين للأمسيات الفنية، لا يصح لهم رمي الحاضرين بـ"التفسخ"!. فاحترام التعددية والاختلاف في وجهات النظر، والإيمان بأن المجتمع يتسع لمختلف المكونات الفكرية والفقهية، شرط لتحقيق الحوار الفعال بين المشاربِ المختلفة. في ذات السياق، على المختلفين أن يعوا بأن "الاجتهاد" باب واسع. وأن هنالك قراءات فقهية وفكرية متنوعة، كل واحدة منها لديها أدلتها الناهضة، وبراهينها العلمية والنصية والتجريبية التي تستند عليها، وبالتالي فإن الحوار حول ملف "الترفيه" ستكون له إيجابيات كبيرة، في حال تم بعلمية وموضوعية، وبعيداً عن الصراعات الحزبية والتيارية. الجدل المجتمعي هو في عمقه نقاش يطال مفاهيم "الحرية" و"الهوية"، وعلاقتهما بالفهم الديني للنص. وبالتالي هي نقاشات تلامس نقاطاً غائرة في الفرد والذات الجمعية، تتسم بطبيعة لا نهائية، يومية، لا يمكن حسمها، لأن الأسئلة تتوالد بشكل مطرد، يرتبط بالحياة المعاشة، وتصرفات الفرد. المجتمعات الأوروبية، ومن خلال "التنوير"، وعبر الفصل بين الكنيسة والدولة، وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، والدولة المدنية الحديثة، استطاعات التأصيل فلسفياً لكثير من القضايا التي هي محل جدال في المجتمعات الخليجية والعربية، اليوم. لن تجد هنالك جدلاً في النمسا أو ألمانيا حول حق الفرد في اختيار طريقة عيشه، أو أفكاره، أو التعبير عن ذاته بالطريقة التي يراها، طالما التزم بسقف القانون، الذي هو نتاج تجربة المجتمع والدولة معاً. الطريق طويلة في مجتمعنا نحو الوعي بأن الهوية ليست ذاتاً جامدة، وإنما هي مفاهيم تتشكل من خلال التجريب المستمر، وأن التقاليد والعادات ليستا إلا طارئاً ثقافياً لمجتمع عاش قبلنا، له ظروفه الخاصة، ولنا حيواتنا التي علينا أن نكوّن من خلالها أفكارنا، التي نستطيع فيها أن نبني مجتمعاً حديثاً ومتقدماً.
مشاركة :