يعيش مليونان من الفلسطينيين في قطاع غزة، في حالة من الغليان والغضب والقهر والفقر والافتقاد للحاجات الأساسية، وللاتصال مع العالم الخارجي، منذ 12 عاما، وكل ذلك في شريط ضيق مساحته 360 كلم مربعا، فقير بالموارد الطبيعية، ومحاصر من كل الاتجاهات من قبل إسرائيل، التي مازالت تتحكم بالهيمنة على القطاع، والتحكم بمعابره وبموارده وبنيته التحتية، والذي يخضع لسلطة أحادية وإقصائية تمثلها حركة حماس، التي أخذت السلطة بواسطة القوة عام 2007، بعد أن وصلت إلى سدتها بواسطة الانتخابات التشريعية في العام 2006، من دون أن تفلح لا في برنامجها المتعلق بالمقاومة، ولا في سعيها إقامة سلطة أفضل من سلطة حركة فتح في الضفة الغربية. المشكلة أنه على رغم كل ذلك فإن حركة حماس تضيق بالحراكات الشعبية وتتبرم منها، وتقوم بتوجيه الاتهامات لها والتشكيك بدوافعها، ناهيك عن أنها تواجهها بالعنف، وضمن ذلك امتهان كرامة الشباب، وهو ما حصل في الأيام الماضية، في سعيها لصد الحراكات الشعبية التي أطلقها شباب غزة احتجاجا على تردي أوضاعهم الإنسانية، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، نتيجة الضرائب العالية التي فرضتها حماس للتعويض عن تآكل مواردها الخارجية، رغم علمها باستفحال حالة الفقر والبطالة في القطاع نتيجة الإغلاق والحصار وثلاث حروب مدمرة شنّتها إسرائيل ودفع ثمنها فلسطينيو غزة، إن من أرواحهم أو من كدّ أعمالهم. على ذلك فإن ما يحدث في غزة، وهو مقلق ومؤسف وخطير، يطرح مسائل عديدة أهمها؛ أولا، أفول الحركات الوطنية التي تفصل قيمة التحرير عن قيمة الحرية، أو تعلي قيمة الأرض على قيمة الإنسان. ثانيا، إن سلوك حماس يعزز إثارة شبهة أنها مجرد حركة استغلت الديمقراطية والانتخابات للوصول إلى السلطة، أي ديمقراطية لمرة واحدة. ثالثا، إن القوى التي تأخذ السلطة بالعنف ستكون مستعدة لاستخدام العنف ضد شعبها أيضا للحفاظ على سلطتها. رابعا، هذا الوضع يؤكد تحول حماس إلى سلطة أكثر مما هي حركة وطنية أو حركة مقاومة، علما أن هذا هو حال حركة فتح في الضفة أيضا. خامسا، ما يجري يعني أن حماس ليست معنيّة ببناء المجتمع الفلسطيني وتعزيز حيويته وتنمية كياناته وحراكاته السياسية باعتبار ذلك قوة له في مواجهة إسرائيل بقدر اهتمامها بتعزيز سلطتها ومكانتها. سادسا، ما يجري يعزز فكرة أن حماس لم تستطع بناء سلطة في غزة أفضل من تلك التي لفتح في الضفة، تشاركية وديمقراطية، إذ هي مجرد سلطة أحادية وإقصائية، سواء إزاء الفصائل الأخرى أو إزاء شعبنا في غزة. سابعا، إن ادعاءات رفض التنسيق الأمني في الضفة، لا تغطي أو لا تبرر، قيام حماس بقمع الحراكات الشعبية المشروعة في غزة، بل إن ذلك يتطلب تشجيعها ودعمها وتطويرها باعتبار قوة المجتمع الفلسطيني وحيويته من أهم عوامل الصمود والمقاومة للسياسات الإسرائيلية، سواء في الضفة أو غزة. ثمة عدة استنتاجات يمكن ملاحظتها على خلفية حوادث غزة، أهمها: أولا، إن الفلسطينيين باتوا إزاء سلطة أكثر مما هم إزاء حركة تحرر وطني ضد الاحتلال، بحيث إن هذه السلطة باتت عبئا عليهم، بدل أن تكون عامل تدعيم لهم في مواجهتهم الاحتلال، سواء في الضفة أو غزة، وهو واقع ينبغي العمل على تغييره بحصر مهمات السلطة، بإدارة أوضاع الفلسطينيين وتعزيز صمودهم وتقديم الخدمات لهم، وباستعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني. ثانيا، إن شعب فلسطين، في الضفة وغزة، كان أكثر تحررا وصلابة ووحدة في كفاحه ضد الاحتلال، قبل إقامة السلطة عنه بعد قيامها، بدليل الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 – 1993)، وهو الأمر المؤسف الذي ينبغي الانتباه إليه وإدراكه جيدا للعمل على تغييره. ثالثا، إن إضعاف المجتمع الفلسطيني يخدم الاحتلال، ولا يخدم الحركة الوطنية الفلسطينية، ولا حركتي فتح وحماس، من وجهة نظر وطنية وكفاحية، والمعنى أنه من حق الفلسطيني أن يرفع صوته في وجه أيّ سلطة، وضمنها سلطة فتح في الضفة وسلطة حماس في غزة، من حقه أن يتظاهر، وأن يعبر عن رأيه بها وأن ينتقدها وحتى أن يطالب بإسقاطها، لأسباب تتعلق بالفساد أو التجبّر، أو عدم القيام بالدور المناط بها، طالما كان ذلك بالوسائل السلمية، فهذا من أبجديات السياسة وأبجديات المجتمعات الحية. رابعا، الكلام عن المقاومة سيبقى مجرد ادعاء أو مجرد شعار، باستبعاد الشعب من معادلاتها، ناهيك عن التشكيك في حراكاته ومطالبه، لأن المقاومة هي مقاومة شعب، وعمل مدروس ومسؤول، ويفترض أن يصبّ في المصلحة الوطنية لا في أجندات فصائلية أو خارجية، كما يفترض أنها تتوخى إضعاف إسرائيل، لا إضعاف المجتمع الفلسطيني أو تركه فريسة لاعتداءات إسرائيل.
مشاركة :