إشكالية تعاطي المخدرات ظاهرة عالمية تحظى باهتمام ثقافي في الشرق والغرب

  • 3/18/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

على قلب رجل واحد يقف المصريون لدرء مخاطر وشرور المخدرات وحماية الوطن والأبناء والمستقبل، فيما باتت إشكالية التعاطي والإدمان ظاهرة عالمية تؤرق كل صاحب ضمير، وتحظى باهتمام ثقافى عميق في الشرق والغرب، بحثا عن سبل الانعتاق وتفكيك مخالب الإدمان التي تفتك بروح الإنسان ووجوده ووعيه.وتشهد مصر الآن حملة مجتمعية شاملة تشارك فيها عدة وزارات لمكافحة المخدرات والتوعية بمخاطر تعاطيها، جنبا إلى جنب مع تطبيق القانون الرادع لمتعاطي المخدرات و"تجفيف منابع التعاطي".ويتفق المعلقون في الصحف ووسائل الاعلام المصرية، على أن شرور المخدرات لا تقتصر على متعاطيها وإنما قد تتسبب في إزهاق أرواح أبرياء جراء حالة التبلد وغياب الإدراك للمتعاطين الذين يعملون في مرافق وخدمات حيوية تتعامل معها الجماهير في أوجه الحياة اليومية، ناهيك عما تنطوي عليه ظاهرة تعاطي المخدرات من أضرار جسيمة بالتماسك الأسري والسلام الاجتماعي وإهدار الطاقات وخاصة بين الشباب.ويلاحظ مثقف مصري كبير هو الدكتور مصطفى الفقي مدير مكتبة الإسكندرية، أن المخدرات تقف خلف بعض الجرائم ذات النوعية البشعة والغريبة على أخلاق وقيم المصريين، فيما يصف شيوع المخدرات في العالم "بذلك الداء اللعين الذي استشرى في عالمنا المعاصر تحت مسميات جديدة ومواد مخدرة طبية أو نباتية".ويضيف الدكتور مصطفى الفقي، أن هذا الداء اللعين يمزق المشاعر ويعبث بالعقل ويطيح بالضمير، ويحول الإنسان إلى كتلة بلا وعي، لذلك فإن محاربة المخدرات بكل أنواعها واجب أصيل على الدولة والمجتمع المدني وكل من يحمل قدرا من المعرفة أو تجري في عروقه دماء مصرية تسري بالوطنية الصادقة، والخوف على المستقبل والحرص على الأجيال القادمة.وأكد الكاتب والشاعر الكبير، فاروق جويدة، تأييده لفصل أي موظف أو عامل يثبت تعاطيه للمخدرات، منوهًا بالمواجهة الضارية التي تخوضها وزارة الداخلية ضد المخدرات، فضلاً عن جهود مراكز علاج الإدمان.وأضاف: "نحتاج إلى حملة واسعة ضد المخدرات، تشارك بها كل مؤسسات الدولة، واستعادة دور الأسرة في الانضباط والتربية"، ودعا للتنسيق بين كل الوزارات والجهات المعنية بمكافحة المخدرات وعلاج وإعادة تأهيل المتعاطين.وإذ شدد على أن المخدرات التي تأكل شبابنا وتستبيح أفضل ما لدينا من العناصر البشرية، تأتي بأعبائها الاقتصادية والصحية، ضمن محاولات استهداف مصر والمصريين. قال فاروق جويدة، إن مدمن المخدرات، عليه في ظل العقاب الصارم الذي يصل لفصله من عمله، أن يختار بين أن يكون إنسانًا سويًا أو إنسانًا مدمنًا.وكان الكاتب والأكاديمي الكويتي، الدكتور محمد الرميحي، قد أشار لجانب من سلبيات العصر الرقمي وثورة الاتصالات والمعلومات وما يسميه "بالحتمية الرقمية"، عندما لفت مؤخرا لاستغلال مواقع ومنصات للتواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية في الترويج للمخدرات.ورأى عالم الطب النفسي الكبير الدكتور أحمد عكاشة، وهو رئيس الجمعية المصرية للطب النفسى، أن "علاج الإدمان يحتاج طبقًا للقانون إلى إشراف طبى من طبيب نفسى متخصص ومعه إخصائى نفسى وإخصائى اجتماعى وتمريض نفسى"، فيما شدد على أن "منظومة العلاج النفسى فى مصر محترمة جدًا وتخضع لقوانين ورقابة هائلة".وإذ يلفت الدكتور عكاشة، إلى أن الإحصائيات أفادت بزيادة تعاطى بعض أنواع المخدرات، وظاهرة تعاطي وإدمان المخدرات في الولايات المتحدة تفرض نفسها بقوة على اهتمامات المثقفين الأمريكيين، فيما تتوالى إصدارات وكتب جديدة حول هذه الإشكالية.ومن تلك الكتب الجديدة التي صدرت مؤخرًا بالإنجليزية بعناوين دالة: "جرعة أمريكية زائدة" لكريس مكجريل و"مخدر مرضي" لبيث ماكي و"قاتل الألم: إمبراطورية الخداع" لباري ميير و"حقنة مخدرات أمريكية: داخل أزمة الإدمان وكيف نضع لها حدا" لريان هامبتون وكلير فوستر.ولا ريب أن هذه الموجة الجديدة من الكتب الأمريكية حول إشكالية تعاطي وإدمان المخدرات تشكل جهدا ثقافيا وازنا لمواجهة خطر يهدد المجتمع الأمريكي، بعد أن كشفت إحصاءات "للمعهد القومي للتعاطي غير المشروع للمواد المخدرة" أن 72 ألف أمريكي قضوا هلاكا في عام 2017 وحده، جراء تعاطي جرعات زائدة من تلك المواد المخدرة، فيما حذر هذا الصرح العلمي الطبي الأمريكي من أن الظاهرة تتصاعد.وتتفق هذه الكتب الجديدة في التركيز على استخدام المتعاطين لمواد مخدرة خصصت أصلا لأغراض طبية ولتخفيف حدة الآلام المبرحة للمرضى ولايجوز استخدامها إلا في ظل رقابة صارمة من الأطباء وبناءً على تعليماتهم.كما تتفق في التحذير من خطورة نزعة الجشع والنهم الرأسمالي المفرط للربح لدى البعض، عندما تقترن بالتغاضي عن تعاطي أشخاص غير مصرح لهم بمثل هذه المواد التخليقية والمخدرة، من أجل الكسب بأي سبيل حتى لو كان هذا الكسب غير مشروع بصورة صارخة ومنافية للقيم الإنسانية الخيرة ومن شأنه أن يفضي "لمجتمع مخدر".ومن المثير للأسى سواء في الولايات المتحدة أو غيرها أن تنتشر معلومات حول "أماكن وبؤر الحقن بالمخدرات وأكثرها أمانا وابتعادا عن قبضة العدالة"، كما توضح هذه الكتب الجديدة التي تحوي أيضًا مقابلات ميدانية مع بعض المتعاطين والمدمنين وتتقصى مدى استعدادهم لهجر هذا الداء اللعين، وصولا لاستهداف مصادر اليأس التي تدفع البعض للإدمان، ولطرح أفضل الخيارات برؤية شاملة لعلاج الظاهرة، التي أمست تؤرق المجتمع الأمريكي.ولم ينس المثقفون الأمريكيون بعد مثقفا وفنانا كبيرا وهو جيل سكوت هيرون الذي تقترب الذكرى الثامنة لرحيله ولم تتوقف التساؤلات الحزينة فى منابر ودوائر ثقافية أمريكية عن سر استسلام هذا المثقف للكوكايين لينتهى حطاما قبل أن يموت بالفعل يوم السابع والعشرين من مايو عام 2011.وحتى الآن، فإن هناك في الولايات المتحدة من يقول إن جيل سكوت هيرون، مات مرارًا قبل أن يوارى الثرى، رغم أنه الشاعر الذي أبدع فى عنفوانه كلمات موحية عن "الروح الحرة".ووصف جيل سكوت هيرون بشاعر الثورة وصوت الثقافة السوداء، بفضل إنجازاته سواء على صعيد الشعر والفن أو بمجال النضال السياسي دفاعا عن حقوق الأمريكيين المنحدرين من أصول أفريقية.وفيما قضى أغلب سنوات عمره الـ62 فى حى هارلم الشهير بنيويورك، وتميز فنان موسيقى الراب جيل سكوت هيرون بالرؤى النقدية اللاذعة فى محاربة العنصرية، ومع أن هذا الحي كان علامة على البؤس وعالم المخدرات، فقد وهب أمريكا كوكبة من المبدعين السود، وقدم أعظم عازفى موسيقى الجاز وراقصى "ديسكو الشوارع" وفريق هارلم الفذ فى كرة السلة، فيما شهد معارك شرسة ومريرة بين رجال الشرطة وعصابات منظمة.ومن المفارقات أن العالم كان شاهدا على كل هذا البؤس، حيث يقع مقر الأمم المتحدة فى نيويورك بالقرب من حى هارلم الذى بات الآن يجتذب العديد من الزوار والسائحين الأجانب هواة حياة الليل والسهر فى المسارح والحانات.إنه الحى الذى عاش فيه الموسيقى الشهير لوى أرمسترونج "أعظم عازف ساكسفون فى القرن العشرين" وصاحب رائعة "أحزان الطرف الشرقى" وفى حى هارلم أيضا تعلم مايكل جاكسون الغناء ليتحول إلى أيقونة أمريكية.وكان الناقد بن سيزاريو بصحيفة نيويورك تايمز، قد وصف جيل سكوت هيرون الذى انتمى لليسار الثقافى الأمريكى، بأنه أحد أبرز أصوات الاحتجاج الثقافى فى سنوات السبعينيات من القرن العشرين وصاحب تأثير لا ينكر على المشهد الشعرى للأمريكيين السود.وإذا كانت موسيقى الراب فى الأصل بمثابة فن احتجاجى للأمريكيين الأفارقة الساخطين على حرمانهم من فرص أفضل فى الحياة والعمل فإن المخدرات لم تساعد أبدا جيل سكوت هيرون على الإبداع، بل أنها كانت فى الحقيقة "مقبرة الإبداع".ومع استسلامه للكوكايين، بدأ منسوبه الإبداعى فى الانخفاض والشح، اعتبارًا من منتصف ثمانينيات القرن العشرين وفى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين أدين جيل سكوت مرتين بتهمة حيازة كوكايين، فيما اعترى الوجل والذعر جمهوره ومحبيه، وهم يلاحظون مدى ذبوله واضمحلال إبداعه، ولعل ما يثير الأسى أكثر ما لاحظه صحفى بمجلة "نيويوركر"، من أن هذا المثقف والفنان الكبير كان يتفادى النظر لنفسه فى المرايا بعد أن انهارت حالته الصحية، وكأنه يريد أن يهرب من ذاته المحطمة!.وهكذا قضت المخدرات على جيل سكوت هيرون، الذى كان يفضل وصف نفسه بالفنان الشامل حيث جمع بين الشعر الطليعى وموسيقى الجاز وتقاليد فن "البلو" وهي أغانى الشجن الراقصة للأمريكيين السود.وإذا كانت كتابات عدة قد تناولت مأساة الممثلة الفرنسية الجميلة ماريا شنايدر، قضت منذ نحو ثماني سنوات بعد أن دمرها الإدمان على المخدرات، رغم أنها كانت فنانة موهوبة كما تبدى في فيلمها مع الممثل مارلون براندو "التانجو الأخير في باريس"، فالممثل المسرحى والتلفزيونى البريطاني أنتونى شير، قال في اعتراف شجاع: "اسوأ أوقاتى كانت إدمانى للكوكايين، وقد انتهت فى عام 1996 وأنظر لها الآن بندم".وفى كتاب صدر بالإنجليزية بعنوان: "العم شارلى"- يقدم الفنان مارك اسنين تجربته الأليمة مع الإدمان، وخاصة إدمان الكحوليات وهو أيضًا"كتاب شجاع لرجل شجاع" يعترف بخبايا محنتة ولحظات الضعف التى قادته للإدمان أو تدمير النفس.والكتاب الذى تجاوزت صفحاته الـ400 صفحة كلماته حميمة أمينة صادقة وراغبة فى مساعدة أولئك الذين سقطوا فى هاوية الإدمان، فيما اقترن بكثير من الصور وكثير من الصراحة، ليقول مارك اسنين الذي يعيش فى بروكلين بنيويورك، إنه فقد ثقته بنفسه واحترامه لنفسه أثناء محنة الاستسلام للإدمان فيما باتت حياته فى ظل هذا الاستسلام سلسلة عبثية من الخيارات السيئة.ومع أن البعض ذهب في مصر، إلى أن فنان الشعب سيد درويش، قضى جراء جرعة زائدة من الكوكايين فإن الكاتب الكبير الراحل محفوظ عبدالرحمن رجح أنها مكيدة استعمارية بسبب مواقفه الوطنية، وكان يسلم بأن سيد درويش فنان ثورة 1919 عرف الإدمان فى مرحلة ما لكنه تخلص منه.ومنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر كان المحلل النفسى الأشهر فى التاريخ سيجموند فرويد، قد أجرى دراسات على الكوكايين فى سياق جهد علمى لصياغة نظرية عامة حول العقل والطبيعة الإنسانية، غير أنه تنبه لعبث وخطورة سقوطه هو نفسه بهاوية الإدمان فتوقف عن تجاربه على أوراق الكوكا.وهو ما حفز هوارد ماركيل، أستاذ تاريخ الطب بجامهعة ميتشيجان، لأن يصدر كتابا بعنوان "تشريح الإدمان"، تناول فيه هذه الدراسات الفرويدية فيما لم يثبت أبدًا على وجه اليقين أن المخدرات محفز إبداعى خال من الضرر الفادح، بل أن سيجموند فرويد، حذر صراحة بعد نحو ثلاثة عقود من تجاربه من النتائج الكارثية لها.وفي مقابلة، مع صحيفة الجارديان البريطانية، كان من الدال أن يقول كريس إدواردز، وهو من أصحاب محال بيع الكتب النادرة في لندن، إن بعض اللصوص المحترفين للكتب النادرة، يمارسون أفعالهم المؤثمة قانونا، بغرض الحصول على أموال تكفي متطلباتهم من المخدرات، حتى إن أحدهم وهو مدمن للكوكايين باتت صورة معلقة على جدران محال وصالات بيع الكتب النادرة في لندن.ويبقى الأمل في مواجهة هذه الإشكالية والظاهرة العالمية، أن تتمكن الإنسانية من إنقاذ كل من انبطح مستسلما للتعاطي والأدمان، وتفكيك مخالب اللعنة التي تهدد الأجيال والحاضر والمستقبل، وما زال الأمل ممدودًا لكل من يقف على شفا الهاوية وجحيم الإدمان!.

مشاركة :