الإصلاح الديني وأسس بناء التراث

  • 3/4/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أثارت مسرحية الخيبري الهزلية جدلاً واسعاً، ووضعتنا في مأزق علمي وحضاري، وقبل هذا وذاك ديني، وهي لم تصدر سوى من واعظ، قليل العلم، مُزجى البضاعة عند العارفين، فكيف هي حالنا لو كان حديثه هذا صادراً من رجل دين، مكث عمره في تحصيل العلوم الشرعية، وثنى ركبيته عند العلماء وكتبهم؟!. هذه الأحداث المرّة لا يكفي أن نتناولها بالرد والتفنيد الجزئي، فنقصد إلى القول، ونحتج على صاحبه، ما وآتنا الدليل، وقربت منا الحجة، فربّما كانت العلة في أسس بناء التراث، وتكوين آفاقه، لربما كان ما نراه من غرائب الأقوال، وشواذ الرأي، ليس سوى ثمرة من ثمار تلك الأسس؛ فهي حاميه الأشدّ، والمدافع الألد عنه، وهي الساقي لكل ما ينجم على سطح ثقافتنا المعاصرة من غرائب التراث، وعجائبه؛ فنحن في ظني لم نرث التراث وحده، بل ورثنا معه تأصيلاً قاتلاً للعقل، ومُقصياً له!! يجعل ما فيه هو خيارنا الوحيد، ووجهتنا النهائية، وليس لنا، ولا للمسلمين من بعدنا؛ إلا أن ننقاد له، ونُعيد إحياءه، ونبعث ما فيه في كل مرحلة تأريخية جديدة، فما لم نتجه بفعلنا الفكري، وعلمنا العقلي، وجهودنا البحثية، إلى هذه الأسس التي تُمكّن التراث من رقابنا، وتبسط سلطته على عقولنا؛ فلن نصنع لأنفسنا كبير أمر، ولن نُقدّم لغيرنا شيئاً ذا بال، ولعلي، بعون الله تعالى، أكشف عن شيء من هذه الدعوى التي لا يقبلها كثير من أنصار التراث، ويصرون على مخالفتها، ويستندون إلى ذلكم التأسيس في مدافعتها. إذن؛ الدعوى التي أضعها بين أيديكم، هي أنّ المشكلة ليس في التراث وحده، حتى يكون الحل مع ما فيه من أخطاء أن نُواجهها بالتفكير والتأمل، وتسليط الناقد العقل والفاحص، وإنما في الأسس التي تجعل التراث، بصورته التأريخية، لازما من لوازم تفكيرنا، وأصلاً من أصول المعرفة عندنا، حتى أصبح دورنا هو دور من يُسدد نقص التراث، ويُغلق الفجوات فيه، ولا يُفكر في طرح جديد يبني به المعرفة مرة أخرى، ويُعيد به تشكيل التراث، فهذا الموقف التأسيسي من تراثنا عندي هو الحائل الرئيس دون أن نقوم نحن، ويقوم غيرنا من المسلمين، بدوره في تشكيل معرفة أجيالنا من جديد في كل مرحلة تأريخية مختلفة، وعصر إنساني جديد. في معرفتنا أساسان شهيران، يفرضان علينا التبعيّة للتراث، ويسمحان لنا بدور معرفي هزيل، وأود في هذه المقالة أن أنفضهما، وأهزّهما ما استطعت عبر النظر إليهما من خلال بعض الروايات، الواردة في كتب التفسير والحديث، وأول هذين الأساسين، وهو متعلق بالأفهام ونتاج عقول الأسلاف، أنّ المسلم المتأخر ليس له أن يخرج عما قرّره الأولون من أقوال، وانتهوا إليه من آراء، فإذا اختلفوا على رأيين مثلاً في مسألة لم يجز له أن يُحدث رأيا ثالثاً، وثاني الأساسين، وهو متعلّق بباب رواية الحديث ونقله، أن الصحابي حين يروى ما لا مجال للرأي فيه، ولا دور للعقل فيه؛ فهو يرفعه إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم؛ إذ يُظن بالصحابي ألّا يتكلم بشيء كهذا من تلقاء نفسه!!. (هذا الموقف يدل على أن ثقافتنا أحلّت الصحابي في هذه القضية محل الرسول). جاء في الموسوعة العربية العالمية عن البَرْق:" ويتكوّن البرق الذي يُصيب سطح الأرض من واحدة، أو أكثر، من تفريغ الشحنات الكهربية التي تُسمّى الضربات، ويُسمّى الضوء الساطع الذي نراه في ومضة البرق الضربة المرتجعة" ( 4/ 336). وجاء فيها عن الرعد:" صوت يُسببه البرق. يتسبب البرق في تسخين الهواء القريب، فيجعله يتمدد، ويصطدم الهواء الحار المتمدد بالهواء البارد فتنتج الموجات الصوتية التي نسمعها، وهي الرعد" (11/ 253 ). هذه هي فتوى العلم في هاتين الظاهرتين الطبيعيّتين، فما نحن واجدون في تراث أسلافنا الذي نتعامل معه، وننظر إليه، وَفق المعيارين السابقين أولُ (أولهما لا يحق لمتأخر أن يخترع رأياً جديداً في مسألة عالجها الأولون، وثانيهما أن الصحابي حين يتحدّث عن شيء، لا دخل للرأي، فإنما ينقل عن رسول الله، عليه أفضل الصلاة والسلام)؟. تضعنا الروايات عن الصحابة والتابعين في هاتين الظاهرتين أمام مأزق كبير؛ فإما أن نبقى خارج العلم وعصره، وإما أن نضرب بتلك الروايات عرض الحائط!، ونعدّها منتجاً بشرياً، لا دخل للدين فيه، وهذا يجرّنا إلى مصادمة ذينك الأساسين، وخلخلتهما، وهو موقف حَرِج، يضطرنا للاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ؛ فإما أن نختار الاستقلال عن تراثنا ورجاله، ودون ذاك خرط قتاد، وإما أن يبقى هذا التراث، خاصة تحت هذين الأساسين، غِلا لنا، وقيداً لأجيالنا المسلمة التي لا ندري كيف ستكون أحوالها، ولا علم لنا بظروف عصرها. في مصادمة ذينك الأساسين، وخلخلتهما، يكْمن مستقبلنا، ويستتر خلف نقدهما وجودنا المنتظر في هذه الحياة، ولست إخال هذين الأساسين إلا خطأ وقع الأولون بتقييدنا فيه، وفرضوا علينا بهما وجهة عقلية محددة، فكانت نظراتنا الفكرية معروفة النتائج لمن يعلم هذا التأسيس لهيمنة التراث وأهله علينا، ولم يعد لنا تحلل ذاتي منها، بل صِرنا مرهونين بالقرار الخارجي، ننتظر ما يقوله العلم وأهله؛ حتى نُغيّر من جزئيات هذا التراث، ونرفض بعض ما فيه، وهكذا فقرار التغيير في أيدي غيرنا، وهو إلى ما تقدّم تغيير لا يُفيدنا كثيراً؛ لأنه جزئي، يتعلّق بهذه المسألة أو تلك، ولا يمسّ أسس بناء هذا التراث؛ إذ الأسس يُظن بنا نحن أهل هذا التراث أن نقوم بنقدها، وتعقّب أسلافنا فيها؛ لأنها هي الحائل الرسمي بيننا، وبين أن نعيش عصرنا، ونُقدّم ما يُنتظر منا له، ولأهله، وأي ورطة أكبر من أن تكون أمتنا مرهونة في تعاملها مع تراثها ورجاله بأمم أخرى تُشاركنا هذه الحياة؛ إن ذلك، أيها السادة والسيدات، يعني عندي أنّ قرار التغيير سيكون دوما ًخارجياً، وهل ينفع الإنسانَ، قبل الأمة، أن يكون قرار تغيّره مرهوناً بغيره، ومُوكلاً إليه دونه؟!. جاء في تفسير الطبري عن الرعد:" عن ابن عباس:" الرعد اسم ملَك، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتدّ زجره السحاب، اضطرب السحاب واحتكّ، فتخرج الصواعق من بينه" وعن "علي بن أبي طالب:" الرعد الملك، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد"، و" عن ابن عباس: الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه" ( 1 / 358 و363). وجاء في سنن البيهقي:" قال مجاهد:" الرعد ملك، والبرق أجنحة الملك يسقن السحاب... قال الشافعي:" وما أشبه ما قال مجاهد بظاهر القرآن" ( 3/ 363 باب ما جاء في الرعد)، وصحح هذا الرأي صاحب " تحفة الأحوذي"، ونقل عن البغوي أن "أكثر المفسرين أن الرعد ملك يسوق السحاب، والمسموع تسبيحه" ( 9/ 290). مثل هذه التصورات تكشف عن ثقافة العرب في النظرة إلى الكون، وتُرينا أنّهم كغيرهم من الأمم يبحثون عن تفسير ما يرونه، ويسعون للوعي بما حولهم، وإن كانوا لا يملكون القدرة عليه، ولا يرجعون فيه إلى يقين صريح، وحجة فاصلة؛ فمثل هذه التفسيرات محاولات بشرية، خطؤها غير مستبعد ولا مستغرب، ولا يُعطي الوحي، ونزولُه على العرب، لآرائهم أيَّ حصانة، ولا يضمن لهم تدينهم أن يكونوا أكثر من غيرهم في إدراك هذه الظواهر، والعلم بها، وإن لم نعِ بهذا الفصل الحازم بين الدين وأصحابه؛ فسيدفع الإسلام ثمن هذه العلاقة التي لا يُؤيّدها الدين، ولا يقف في صفّها العقل، ولا تنصرها تجربة الأمم من قبلنا مع أديانها. تُقدّم هذه الروايات في الرعد والبرق حجةً لي، وربّما لغيري، للشك في الأساسين اللذين ذكرتهما أولا، وتسمحان لي أن أرتاب منهما، وأضعهما تحت اختبار هذه الروايات، وغيرها، مما سأعثر عليه في المستقبل القريب، ولست أستبعد أن أخلص إلى قناعة تامة في المستقبل!!؛ بأنّ هذين الأساسين يقفان وراء ما يُعانيه العقل الإسلامي في هذا العصر، ويختصران لنا البلاء كله أَجْمَعَ؛ سواء في موقفنا من العلم ووقائعه أم في موقفنا من أهل المذاهب الأخرى من أبناء أمتنا؛ إذ يُشكل هذان الأساسان إطاراً معرفياً حاكماً للمسلمين عامة، وإن اختلفت مذاهبهم ونحلهم، ويسوقهم إلى نتائج متشابهة، ونهايات مرسومة قبل أن يُفكّروا في البدء بها! وما عليك الآن من ملامٍ حين ترى مسلماً، يدرس قضية، ويُعالج أمراً؛ أن تَسْتَبق بحثه، وتضع نتيجته التي سيخلص إليها بعد البحث؛ لأن هذا الإطار يحكمه، ولن يستطيع الفكاك منه! ومن يُحاول أن يندّ عنه؛ فهو مرفوض، وإن كان سقراط في إتيانه بالحجج، وإيراده للبراهين. كثيرون حين يقرأون هذه المقالة؛ سينظرون إلى كاتبها نظرة الناقم على التراث، والكاره لأسلافه، وقليلون أولئك الذين سيقولون: إنه رام تحرير المسلم، وحلّ القيود الصلبة عن عقله، عبر المشاركة في نقد التراث، وأسس بنائه، وأحسب الثاني هو الخيار الأليق بكل مسلم يرى قيمته الأساسية في دوره العقلي في هذه الحياة، ويميل إلى أن حضور الإسلام المنتظر لن يكون إلا على عقول أهل هذا العصر من أبنائه؛ فهم المسؤولون عنه، وعلى أكتافهم يُترقب حضوره!. نقلا عن الرياض

مشاركة :