الشارقة: علاء الدين محمود محمدو لحبيب يعتبر المسرح الفرنسي أحد أعرق المسارح في العالم كله، سواء على مستوى النصوص والكتَاب، أو على مستوى المدارس الإخراجية العديدة التي ظهرت فيه على مدار عدة قرون، وقد جسد ذلك المسرح بإخلاص معظم التحولات التاريخية التي مرت بها فرنسا، فكان بحق منصة مناسبة لدراسة المسرحيات التاريخية بالنسبة إلى الباحثين والمتخصصين في المسرح.ونتيجة اهتمام صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، بالمسرح، بشكل عام، وحرصه على نشر الثقافة المسرحية الرصينة في أوساط العاملين في مجال إبي الفنون في الإمارات، وفي الوطن العربي، يأتي كتاب سموه المعنون ب»التاريخ على خشبة المسرح الفرنسي»، والصادر حديثاً عن منشورات القاسمي، ليكرس وعي سموه بضرورة توفير التجارب المسرحية العالمية العريقة، وجعلها متاحة من دون عناء، وبأسلوب مركّز وسلسل وممتع للقارئ العربي، وللمشتغل بالمسرح بشكل خاص.ابتدأ سموه الكتاب بمقدمة بعنوان «التاريخ على خشبة المسرح الفرنسي»، استعرض من خلالها نبذة عن المسرح التاريخي الفرنسي فقال: «يعود المسرح التاريخي في فرنسا إلى القرن الخامس عشر الميلادي، ويؤرخ له بمسرحية -حصار أورليان-».يستعرض سموه بعد ذلك مكانة المسرح التاريخي وعصره الذهبي في فرنسا فقال: «عرف المسرح التاريخي عصره الذهبي عندما لجأ الرومانسيون الجدد، من كتاب القصص أو ملاحم البطولة، أو المخاطرة إلى الأحداث التاريخية الكبرى، فقد كانوا هم الذين يجدون الواقع اليومي غثاً هزيلاً، وكانوا يأملون أن يجدوا في الماضي توقهم إلى ماهو أجمل من الواقع، ويقدر عدد المسرحيات التاريخية في القرن العشرين الميلادي بمئتي مسرحية على الأقل».ويؤكد سموه بعد ذلك على أنه اختار أهم من ألفوا مسرحيات تاريخية في فرنسا لإظهار معالجاتهم المختلفة للتاريخ، وقال: «لقد اخترت أهم المؤلفين المسرحيين الفرنسيين من بين الذين ألفوا مسرحيات تاريخية، وعددهم أحد عشر مؤلفاً، واخترت بعضاً من مسرحيات كل واحد منهم، لإظهار معالجاتهم المختلفة للتاريخ في أعمالهم المسرحية».وكان أول من تناولهم سموه بالدراسة في ذلك المجال هو الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي إدموند روستان، وأعطى عنه نبذة تعريفية فقال عنه: «كان إدموند روستان، شاعراً وروائياً ومسرحياً فرنسياً، ولد في الأول من شهر إبريل/ نيسان من عام 1868م، في مدينة مرسيليا، وتوفي في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول من عام 1918م، تاركاً تاريخاً أدبياً مهماً تألف من اثني عشر مؤلفاً بين رواية، ومسرحية، وديوان شعر».ويشير سموه بعد ذلك إلى اختياره مسرحيتين تاريخيتين لروستان، وعن أسباب اختياره ذاك يقول: «لقد اخترت من مسرحياته التاريخية مسرحيتين وهما: الأولى (سيرانو دو برجراك) وقد تم تمثيل هذه المسرحية لأول مرة في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 1896م في باريس».ويشرح سموه كيف أن تلك المسرحية نالت نجاحاً كبيراً وشهرة واسعة ليس في فرنسا وحدها، بل في العديد من دول العالم فقال: «حقق ذلك العمل المسرحي نجاحاً لمؤلفه (روستان) فقد انتشرت المسرحية التي ترجمت إلى العديد من اللغات في كل أنحاء العالم، وبشكل مثير للدهشة، إذ إن شخصية (سيرانو) أصبحت رمزاً وطنياً في كل البلدان التي تم تمثيلها فيها».ويبين سموه الخلفية التاريخية التي جاءت فيها المسرحية، وكيف أنها رفعت الروح المعنوية الفرنسية في ظروف كانت فرنسا تحتاج إلى ذلك فقال: «جاءت المسرحية في الوقت المناسب لرفع الروح المعنوية لفرنسا المصدومة بفقدان أجزاء من أراضيها بعد الحروب الفرنسية البروسية عام 1870م».والمسرحية الثانية التي اختارها سموه للكاتب روستان هي مسرحية «فرخ النسر»، وقال سموه عن موضوعها: «اختار روستان موضوعاً عن التاريخ، وهو عن نابليون الثاني (1811م-1832م)، الذي ولد في باريس، ونودي به ملكاً على روما بعد ولادته، والمسرحية تتضمن الكثير من المعلومات غير المعروفة عن الحياة التعيسة لهذا الأمير الصغير، نجل نابليون من ماري لويز النمساوية، في بلاط (شونبرن) في فيينا، والذي عاش فيه تحت أنظار جده، مراقباً عن كثب من قبل الأمير النمساوي المتنفذ».المثال الثاني الذي تناوله سموه هو الأديب رومان رولان، وقد قال عنه: «يعتبر رولان من قادة الفكر الحديث المدافعين عن السلام، وحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1915م، فعد فوزه بمثابة تحية إلى المثالية النبيلة في إنتاجه الأدبي».واختار سموه مسرحية واحدة كمثال على أعمال رولان التاريخية، وهي مسرحية روبيسبير، وأشاد بها واعتبرها عملاً رائعاً مزدحماً بالدهشة، وقال واصفاً إياها: «كل المسرحية تعتبر عملاً رائعاً، حيث تتلاحق الاندهاشات وتدور الملحمة بأسلوب حقيقي، مظهرة لصفات الخسة والفساد والوحشية المتلازمة، وجنباً إلى جنب مع العظمة، والتضحية بالنفس، لكن الصورة حقيقية، وبالغة الصدق، حتى إنه في العظمة تظهر دناءة الإنسان مبهمة».النموذج الثالث الذي أتى به سموه هو الكاتب المسرحي والروائي ألبير كامو، واختار له مسرحيته الشهيرة «كاليغولا»، وعرف سموه بالمسرحية قائلاً: «رواية كاليغولا تتحدث عن الإمبراطور الروماني الصغير كاليغولا الذي صُدم بالموت المفاجئ لشقيقته التي أحبها».ثم قدم سموه قراءة في مضامينها المفاهيمية، وشرح سمات شخصيتها الرئيسية، فقال عنها: «تأملاته السرمدية المحيرة قادته بأن اعتقد أن مقامه أو مركزه ذو سلطات لا حدود لها، فهو ملك العالم، لكن عقله مشوش بالحزن، فهو يجاهد للسيطرة على العالم».بعد ذلك قدم سموه نموذجاً آخر هو جان كوكتو واختار من أعماله ثلاث مسرحيات، كانت أولاها هي مسرحية «أنتيغون»، فقال عنها: «إنها قصة أنتيغون الأصلية، فهي مسرحية قصيرة جداً من فصل واحد، كُتبت بواسطة المسرحي اليوناني القديم (سوفوكليس) في عام 441 قبل الميلاد، ثم أصبحت موضوعاً شائعاً للكتب والمسرحيات وغيرها من الأعمال المأخوذة عنها».والمسرحية الثانية لكوكتو التي اختارها سموه في كتابه هذا هي مسرحية «أورفي»، وأجرى مقارنة بينها مع الفيلم الذي أخرجه كوكتو في عام 1950م، ويحمل اسم المسرحية نفسه، والذي عرض في مهرجان كان السينمائي.وكانت المسرحية الثالثة التي اختارها سموه لكوكتو هي مسرحية «فرسان المائدة المستديرة»، حيث قال عنها: «في هذه المسرحية استعمل الشاعر الفرنسي «كوكتو» الأسطورة لأهداف تقليل العظمة لدى الملوك والرؤساء ومن حولهم».يتناول سموه محطة مهمة في المسرح الفرنسي، وهي التي يتحدث فيها عن هنري دي مونترلان، صاحب المؤلفات المسرحية الشهيرة، والتي انتخب منها المؤلف مسرحية «الملكة الميتة»، ويصفها بالقصة الغرامية البديعة، والملحمة المأساوية المتميزة، وتدور قصتها حول «بدرو الأول»، ملك البرتغال، وحبيبته «إنيس دي كاسترو»، حيث عاشا قصة حب بعيداً عن أعين الكاشحين والمتطفلين، وظلت علاقتهما محاطة بالظلام، الذي يشبهه سموه بالظلام الذي يحيط بوالد الملك «بدرو» المجنون، القوي، المؤذي.أما المسرحي «ألكسندر آرنو»، فقد انتخب سموه من مسرحياته «هيون بوردو»، وهي تحفل بتفاصيل عرض مثير وساخر، والعمل مستلهم من «الميلودراما السحرية»، وتقع في تسعة مشاهد، بنظم شعري، ونثر جيد، وباستلهام أناشيد البطولة، وتجري أحداث المسرحية في نهاية حكم «شارلمان»، ملك فرنسا، حيث قام «هيون»، ابن دوق «بوردو»، بقتل ابن «شارلمان»، «شارلوت»، فغضب الإمبراطور وجن جنونه، فحكم على «هيون»، بأن يأتيه بأربعة أضراس، وخصلات من لحية «غوديس»، أمير بابل، وإلا سيتم نفي هيون نفياً نهائياً.ويتوقف سموه عند منعطف مهم في تاريخ المسرح الفرنسي، عندما يتناول «ألكسندر دوما» أكثر الكتاب الفرنسيين شهرة، حيث ترجمت أعماله إلى مئة لغة، وقام بتأسيس المسرح التاريخي الفرنسي في باريس، ويتخير المؤلف من أعماله المسرحية «هنري الثالث وبلاطه»، والتي تحكي عن حياة هنري الثالث ملك فرنسا، والدسائس التي كانت تحاك في بلاطه.ومن أعمال الأديب والشاعر المسرحي «بول كلوديل»، صاحب القصائد الدينية العميقة، اختار سموه مسرحية «كتاب كريستوفر كولومبوس، 1833»، فيما توقف عند المؤلف المسرحي «جان أنوي»، لينتخب من أعماله مسرحية «جان دارك»، وهي عمل تاريخي، يتحدث عن تلك البطلة الفرنسية القديمة التي ساعدت الملك «شارل»، السابع ملك فرنسا، وردت الأنجليز عن حصار المدينة الفرنسية «أورليان»، ولأنوي العديد من المسرحيات التي قام بنفسه بتقسيمها إلى مجموعات على أساس السمة السائدة في المسرحية، وقسّمها كالآتي: سوداء: وهي المسرحيات التراجيدية والواقعية، ووردية: وهي التي يغلب عليها الطابع الفانتازي، وبراقة: وهي التي يغلب عليها اللونان الوردي والأسود، وتدور هذه المسرحيات في جو أرستقراطي، وهنالك الأعمال اللاذعة أو الساخرة وهي من نوع الكوميديا السوداء التي تثير الضحك المرير، ومسرحيات تاريخية، وهي التي يكون أبطالها شخصيات تعود إلى عصور مختلفة، وأعمال «باركية»، وهي التي تعتمد على زخرفة المناظر والإكسسوارات والتقنيات ذات التكاليف الباهظة.ويتناول سموه واحداً من أبرز الكتاب الفرنسيين والعالميين في مجال المسرح، وهو «جان بول سارتر»، وهو فيلسوف وكاتب وناقد، وقد تأثر ب»ظواهرية» الفيلسوفين «هوسرل»، و»هايدجر»، وله قصص ومسرحيات مشهورة، منها: الوجود والعدم، والأبدية القذرة، ورفض قبول جائزة نوبل عندما فاز بها عام 1964م، وقد اختار سموه من أعماله العديدة مسرحية «الشيطان والإله الطيب»، وهو العمل المتكون من ثلاثة فصول، وأحد عشر مشهداً، وتتناول: الطبيعة البشرية، الإله والشيطان، ومسألة: «هل الخير ممكناً؟»، وتجري أحداث المسرحية في ألمانيا القرن السادس عشر، في زمن ثورة الفلاحين ضد الكنيسة.أما الكاتب المسرحي الروسي الأصل «ساشا غيتري»، صاحب المئة وأربعين عملاً مسرحياً، من أشهرها «العهد الجديد»، و»كلمة كاميرون»، فقد انتخب سموه من مسرحياته «الشيطان الأعرج مشاهد من حياة تاليران»، وهي عبارة عن سيرة للقسيس الفرنسي والدبلوماسي «تشارلز موريس تاليران بيريغولد» الذي خدم بلده خمسين عاماً، تحت إمرة خمسة أنظمة حكم فرنسية مختلفة، هي: الملكية المطلقة، والثورة، والقنصلية، والإمبراطورية، والملكية الدستورية.ويتناول سموه «ساشا غيتري»، بشيء من التفصيل، فهو كاتب مسرحي، وممثل ومخرج وصانع أفلام، وكاتب سيناريو، نال الكثير منها نجاحاً ساحقاً، كما أخرج أيضاً ستة وثلاثين فيلماً، قام بالتمثيل في معظمها، وهو صاحب سيرة كبيرة، وإن اعتبر لفترة طويلة كاتباً مغموراً.وقد بحث سموه عن هذه المسرحية، ولم يعثر عليها في المكتبات، ومراكز الأرشيف الفرنسي، والمكتبة الوطنية في باريس، إلى أن وجدها في بلجيكا، وهي ربما تكون النسخة الوحيدة الباقية في حالة جيدة، لذلك قام سموه بتحقيقها لقيمتها الفنية، ويؤكد سموه أن «غيتري» يصلح لأن يكون مثالاً لدراسة التاريخ في العمل المسرحي، لذلك فإن مسرحيته هذه تصلح لأن تكون محل دراستنا للتاريخ على خشبة المسرح الفرنسي، ففيها يظهر التاريخ وشخوصه في معالجة الحاضر الماثل.الكتاب يوفر المتعة والمعرفة بالمسرح الفرنسي، حاضره، وتاريخه المجيد، وهو يعبر عن رحلة ماتعة قام بها سموه بين أولئك المؤلفين المسرحيين الفرنسيين العظام، لينتخب لنا عدداً من أعمالهم المجيدة، ولا يتوقف جهد سموه عند التعريف بالكتاب وأعمالهم المسرحية فقط، بل يتعداه إلى إبراز القيمة الفنية والجمالية والمعرفية لكل عرض تناوله، ويبين خلال الكتاب التقنيات المسرحية، والمنهج، والمدرسة التي تنتمي إليها الأعمال، والمنطلقات الفكرية والفلسفية للكتاب، فكان هذا الكتاب الذي لا غنى عنه للقراء والباحثين في تاريخ المسرح الفرنسي، وتأثيراته الماثلة والحاضرة بقوة، في المشهد المسرحي المعاصر.
مشاركة :