لقد مر على انطلاق الحراك الشعبي شهر كامل تقريبا، وفي هذا السياق الزمني ينبغي تسجيل الملاحظات التالية، وهي أنّ المشهد السياسي الجزائري تتقاسمه ثلاثة أقطاب وهي النظام الدكتاتوري المعزول ومختلف أجهزته بما في ذلك أحزاب الموالاة، وأحزاب المعارضة التقليدية المشتتة، والحراك الشعبي التلقائي الذي لا يزال لم يفرز بعد قيادته المركزية وفروعها في البلديات والدوائر والمحافظات في الجزائر العميقة. في هذا المناخ هناك توترات وتصعيد في حدة الأحداث التي تشهدها الساحة السياسية الجزائرية منذ بدء الحراك الشعبي في 22 فبراير من هذا العام. وإلى جانب هذا يبدو واضحا أن النظام الحاكم لم يقدم تنازلات جوهرية للحراك الشعبي بعد قبول الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بعدم الترشح للعهدة الخامسة وسحب الوزير الأول، أحمد أويحيى من المشهد السياسي وتعويضه بوزير أول ونائب له وهما على التوالي: نورالدين بدوي ورمطان لعمامرة. ويفهم من هذا أن الرئيس بوتفليقة يرفض أن يخرج من التاريخ نهائيا وأن يعامل كدكتاتور على رأس نظام فاسد. رغم إصرار الحراك الشعبي على مواصلات المظاهرات المكثفة فإن بوتفليقة تجاهل في خطابه المقتضب والموجه إلى الشعب بمناسبة عيد النصر يوم 19 مارس الماضي دعوة الحراك الشعبي له إلى الانسحاب من المشهد السياسي فور انتهاء عهدته في نهايات شهر أبريل القادم، حيث بقي يصر على أنه هو من سيقوم شخصيا بتغيير النظام وأنه سيسلم الحكم بعد انعقاد الندوة الوطنية وإجراء الانتخابات الرئاسية بعد الاستفتاء الشعبي على الدستور الجديد الذي سيتمخض عن تلك الندوة. بالنظر إلى التناقض الصارخ بين مطالب الحراك الشعبي وبين إصرار النظام على المراوحة في مكانه، هناك مراقبون سياسيون جزائريون يحذرون الطرفين من تجنب تحويل صراع الإرادتين المتناقضتين إلى صدام عنيف خاصة وأن التصريح الأخير لرئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، أحمد قايد صالح، يفهم منه أن الجيش بصدد طبخ حلول يَصِفُها بالملائمة. وفي الواقع فإن النظام الحاكم في الجزائر بقي يكرر أخطاءه السياسية التقليدية تجاه أي انتفاضة شعبية ترفض سلوكه السياسي السلبي سواء كانت هذه الانتفاضة جهوية في هذه المنطقة أو تلك، أو وليدة الجزائر العميقة كلها. وفي تقدير الملاحظين السياسيين فإنه يمكن تصنيف هذه الأخطاء في: التأخر في التعامل بجدية مع الأحداث، وفي اللجوء إلى الترقيع الفضفاض لهذه النقائص أو تلك دون القضاء على جوهر الإشكال الذي أفرزها ولا يزال يفرز أمثالها، وفي القيام بتغيير هذا الوزير أو ذاك المحافظ وتعويضه بنفس الوجوه القديمة والمحفوظة باستمرار في ثلاجة الاحتياط والمرفوضة شعبيا في آن واحد. وفي الواقع فإن أزمة النظام الجزائري لا تتمثل فقط في الفشل في استبدال تقاليد السلطة المستبدة بثقافة القيادة الحضارية، بل هي أزمة بنيوية وعميقة تمس كل مفاصل الحياة الجزائرية حيث حذَر من انفجارها عدد كبير من الشخصيات الوطنية منذ سنوات طويلة، ولكن النظام الجزائري المصاب بالنرجسية المثبتة لم يستمع إلى أي شخصية من هذه الشخصيات. وفي هذا الخصوص تؤكد الوقائع الملموسة أن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي جيء به ليعدل ويغير وينهي الأسباب الحقيقية التي أدخلت الجزائر في العنف الدموي على مدى أكثر من عقد من الزمان، قد وقع في المشكلة نفسها التي تسببت في تفجير الصراع على الحكم في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي ألا وهي مشكلة الحكم الدكتاتوري الفردي في الغالب، والشللي والجهوي المؤسس على آفة العصبية أحيانا أخرى. نتيجة لكل هذه الأخطاء النمطية المتكررة فها هي الجزائر الآن على حافة انفجار آخر قد تحصل فيه انزلاقات لا تحمد عقباها. وبالمقابل فإن الشعب الجزائري قد وجد نفسه أيضا أمام معارضة تقليدية ومتخلفة، حيث أن أغلب الأحزاب التي تنضوي تحتها هي في الواقع من اختراع النظام الحاكم لخدمة أغراضه ومصالح شلته، أما الأحزاب الأخرى فقد صارت بدورها تفرّخ الدكتاتورية الفردية، وجراء ذلك لم تتمكن من إفراز الحساسية السياسية ذات المضمون الثقافي والأخلاقي، ولقد أدى هذا إلى إنتاج ظاهرتين خطيرتين وهما غياب التفاعل الإيجابي مع القضايا التي تشغل حياة الشعب الجزائري، وسقوط مطلب بناء التحالف الطبيعي معه سعيا لتشكيل قطب المعارضة الوطنية الجادة ذات البرنامج والمشروع والقاعدة الانتخابية الواسعة الضامنة. على أنقاض كل هذه الإخفاقات قام الحراك الشعبي ليغير قواعد اللعبة السياسية، ولكن هذا الحراك قد بدأ يتعرض الآن للاختراق، بطرق مختلفة، من طرف عدد من الأشخاص الذين كانوا في يوم من الأيام جزءا من النظام الاستبدادي وأجهزته القمعية، ومن قبل عناصر كانت لها صلات مع المخابرات وحصل بعضها جراء ذلك على نصيبه من كعكة الثلث الرئاسي في مجلس الأمة وفي الغرفة السفلى للبرلمان وفي مؤسسات كبرى تابعة للنظام الحاكم. وفي الواقع هناك أشخاص يحاولون منذ انطلاق الحراك الشعبي التموقع في هذا الحراك ومن هؤلاء، مثلا، رئيس حزب طلائع الأحرار علي بن فليس المعروف بكونه رجل النظام الجزائري، وأجهزة ورجال المخابرات، وحزب جبهة التحرير الوطني، الذي هو ذراع الاستبداد في البلاد. ومن الواضح أن بن فليس، الذي قام مؤخرا سياسي جزائري معروف بترشيحه ليقود المرحلة الانتقالية، ليس وحيدا في سيرك الانتهازية السياسية بل هناك أشخاص انتهازيون كثيرون ينتقلون من النقيض إلى النقيض. هناك شخص معروف كان قد تم تعيينه سيناتورا من طرف المخابرات، وتحديدا من قبل الجنرال محمد بتشين، ومن ثمّ انضم مؤخرا إلى سفينة المرشح الجنرال علي الغديري المعروف كذراع من الأذرع العسكرية للنظام وذلك قبل إحالته على التقاعد، وبعد انتباه هذا الرجل إلى أن ورقة هذا الجنرال خاسرة قام فورا بالتسلل إلى صفوف الحراك الشعبي ووجد من يروج له في وسائل التواصل الاجتماعي كرمز من رموز المعارضة. إن هذا الوضع غير الطبيعي قد يلعب، حسب تقدير المحللين السياسيين، دورا محوريا في إنتاج حالتين خطيرتين وهما: تأخير بروز قيادة شعبية وطنية نظيفة تحتضن وتقود الحراك الشعبي ولها امتداد داخل بنية شعور المواطنين وهياكل تنظيمية في الدوائر والبلديات والمحافظات، وتمكين النظام الحاكم من اختراق صفوف هذا الحراك، ثم ضرب تماسكه ومصداقيته من الداخل.
مشاركة :