يتطلع هذا المقال إلى استكمال المقالين السابقين حول التعليم والتحدي المعرفي لموضوعات: "العلوم Science؛ والتقنية Technology؛ والهندسة Engineering؛ والرياضيات Mathematics" التي يعبر عنها بالاختصار "ستيم STEM". فقد طرح المقال الأول "مسيرة هذه الموضوعات بين الماضي والمستقبل"، موضحا أن الاهتمام بها والتوجه نحو الاستجابة لمتطلباتها باتا ضرورة في هذا العصر المتجدد الذي نعيش فيه، عصر الثورة الصناعية الرابعة. وقدم المقال الثاني نظرة إلى "مضامين هذه الموضوعات"، مبينا أن "العلوم" تعطي الأسس؛ و"الرياضيات" تعطي لغة التعبير الكمي المحدد؛ وأن في مضمون كل "الهندسة والتقنية" ليس فقط العلم والرياضيات، بل "الفن" في التصميم والتنفيذ، و"الاقتصاد" الذي يوازن بين الفوائد والتكاليف، والعامل "اجتماعي" الذي يسعى لإرضاء متطلبات الإنسان والاستجابة لتوجهاته. وأشار المقال إلى أن الموضوعات الأربعة معا تحتاج إلى "مهارات التفكير وحل المشكلات والإبداع والابتكار" في مجالاتها المختلفة. يهتم هذا المقال بمتابعة سابقيه، والنظر إلى "آفاق المستقبل" بشأن تطوير التعليم نحو مزيد من الاهتمام "بالموضوعات الأربعة". ففي هذا الاهتمام مواكبة لمسيرة العالم، وامتلاك لأسباب المعرفة المطلوبة للتقدم والريادة من ناحية؛ وفيه أيضا الاستفادة من ذلك في الاستجابة للمتطلبات المحلية، واستغلال الإمكانات المتاحة نحو تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها. وعلى هذا الأساس سيطرح المقال "منظومة" تبين مشهد "الموضوعات الأربعة" وما يرتبط بها، ليوضح من خلال ذلك ما يجب أخذه في الاعتبار في التوجه نحو المستقبل المنشود. تعطي "منظومة الموضوعات الأربعة" رؤية متكاملة لمشهد هذه الموضوعات، وما يرتبط بها، ودورها في الحياة، في إطار الثورة الصناعية الرابعة وتجددها المستمر. جوهر المنظومة يتمثل في "موضوعاتها"، وتأتي استراتيجيتها لتصوغ تطلعاتها المستقبلية. في هذه المنظومة، كأي منظومة أخرى، "عناصر حية" تتفاعل فيما بينها، في إطار متطلبات جوهرها، وبما يتوافق مع طموحات استراتيجيتها. وتشمل عناصر منظومتنا "أفرادا ومؤسسات" من أصحاب العلاقة. ثم تتضمن "وسائل تقنية" يمكن أن تفعل نشاطات العناصر. ويضاف إلى ذلك جوانب "البيئة" المؤثرة في النشاطات، تحفيزا أو ربما إعاقة؛ وتشمل عوامل "داخلية" في إطار حدود المنظومة المطروحة، وعوامل "خارجية" خارج هذا الإطار. إذا نظرنا إلى "جوهر" المنظومة، نجد فيها موضوعات "العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات STEM". وهناك لهذه الموضوعات معارف ومهارات "عامة" من جهة، ثم معارف ومهارات "خاصة" من جهة أخرى. في إطار الجانب الخاص، لا بد من طرح المجالات التي تلقى اهتماما متميزا يعطيها أولوية في عصر الثورة الصناعية الرابعة التي تهتم "بالتحول الرقمي السوبر-سيبراني" الذي يشمل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والأتمتة، وتهتم أيضا "بالتقنية الحيوية وتقنية النانو، وتقنيات حديثة أخرى". وانطلاقا من ذلك، فإن جوهر المنظومة التي نحن بصددها هنا هو الموضوعات الرئيسة الأربعة وما يرتبط بها كمعارف ومهارات "عامة"، ثم كمعارف ومهارات "خاصة" تتبع في أولوياتها "معطيات العصر". ولعلنا في التعبير عن "الاستراتيجية" نحدد التوجه المناسب للتعامل مع الجوهر بما يحقق التنمية ويعزز استدامتها. ويتطلب هذا الأمر أخذ الطموحات والإمكانات المحلية في الاعتبار، بمعنى الانطلاق من الواقع و"الاهتمام بالجاهزية" اللازمة الممكنة للتوجه نحو تحقيق الطموحات المنشودة. وهنا تأتي مسألة العمل على تطوير مكونات المنظومة. ويشمل ذلك، كما تقدم، "الأفراد والمؤسسات"، و"الوسائل التقنية"، إلى جنب معطيات "البيئة" الداخلية منها والخارجية. يشمل "الأفراد" في منظومتنا: الطلاب والمدرسين في مختلف المراحل التعليمية؛ وقادة التعليم والمسؤولين، ويتضمن أيضا المهتمين بقضايا التعليم ومخرجاته، والتحدي المعرفي الذي يواجه الجميع، من مختلف جوانبه بحثيا ومهنيا وغير ذلك. أما "المؤسسات" فهي المدارس والجامعات ومراكز البحوث، وهي أيضا المؤسسات والشركات العاملة في مختلف المجالات التي تحتاج إلى الثروة البشرية المؤهلة والأفكار الإبداعية الواعدة. وبالطبع فإن الإنسان هو العنصر الحي الموجه للمؤسسات في كل ما تقوم به. ونأتي إلى "الوسائل التقنية" القادرة على تفعيل التواصل بين عناصر المنظومة من أفراد ومؤسسات، بما يشمل التواصل التعليمي والبحثي والإداري وما يرتبط بذلك. هذه الوسائل هي بالطبع وسائل التقنية الرقمية التي تشهد تطورا كبيرا، جعلت العالم يتوجه نحو التحول الرقمي في مختلف المجالات وبناء عالم جديد بات يستحق لقب العالم "السوبر-سيبراني" كما أسلفنا. ونصل إلى "البيئة" بجانبيها الداخلي والخارجي؛ وهما جانبان متداخلان، لكل منهما معطيات ومتطلبات لا بد من أخذها في الاعتبار واستيعاب مضامينها المعرفية وما يرتبط بها. وهكذا نكون قد وصلنا من خلال ما سبق إلى تحديد أولي لمشهد "منظومة الموضوعات الرئيسة الأربعة" في إطار التحدي المعرفي الذي نواجهه، ثم في التوجه نحو التطوير المستقبلي الذي نتطلع إليه. ولعلنا نستطيع من خلال هذا المشهد النظر إلى "آفاق المستقبل" بشأن استيعاب المعرفة الحية المتجددة لهذه الموضوعات ومعطياتها والاستفادة منها؛ والتمكن من الإبداع والابتكار في مجالاتها، والإسهام، بل والتنافس مع الآخرين في تقدمها، وتفعيل مدى الاستفادة منها. يحتاج التعليم، أمام التحدي المعرفي إلى الموضوعات الأربعة "العلم والتقنية والهندسة والرياضيات STEM"، وجوانبها الاقتصادية والاجتماعية، ومهارات التفكير والإبداع والابتكار فيها، ومعطياتها المتجددة في مختلف مجالات الثورة الصناعية الرابعة، إلى مناهج تعليمية متطورة ليس فقط على مستوى التعليم العالي، بل على مستوى التعليم العام أيضا. ففي مثل هذه المناهج جاهزية للأجيال المتجددة تمكنهم من الاستجابة لمتطلبات التنمية المنشودة، ومواجهة المستقبل بكفاءة وفاعلية. ولا شك أن التحدي المعرفي الذي نواجهه يحتاج إلى إعداد المدرس المناسب للمناهج المطلوبة، ويحتاج أيضا إلى وسائل "التقنية الرقمية" المناسبة. ويضاف إلى ذلك متطلبات البيئة التي يجب أن تشجع على الإبداع والابتكار، وتحفيز التنافس، وحضانة الأفكار، والسعي إلى تنميتها، كي تكون وسيلة لتقديم معطيات متميزة تحمل قيمة تؤدي إلى تعزيز التنمية وتفعيل استدامتها. ويضاف إلى ذلك "التعاون المعرفي" الداخلي والخارجي، ليس فقط في إطار المؤسسات المسؤولة عن التعليم والبحث العلمي، بل في إطار أوسع يشمل المؤسسات المستفيدة من مخرجات التعليم، ومخرجات التفكير والبحث العلمي والإبداع والابتكار.
مشاركة :