«ما قصدي».. !

  • 3/22/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لم يسبق لي زيارة تركيا، ولا أحب المسلسلات التركية، شاهدت فقط مسلسل أرطغرل وأعجبني في أجزائه الأولى قبل أن يتحول إلى منصة خطابية بنكهة الأفلام الهندية. وبداية علاقتي بالأتراك لم تكن جيدة، فقد كان جارنا في القرية (آل روحان العظمى) رجلا تركيا هو وزوجته وابنه بالتبني، وكنت أستمتع وأنا أضرب ابنهم بسبب وبدون، وما جعل الأمر ممتعا حينها أنه يستفزني ثم يستسلم، لم يكن يحب المقاومة على عكس كثيرين ممن كنت أتجنب مواجهتهم حتى وإن استفزوني وأمعنوا في ذلك، وكانت أمه بدورها تتفنن وتستمتع وهي تضربني، ولذلك ربما كرهت اسم «كريمة» إلى الأبد، بل إني أعتقد أن أعراض البخل التي تنتابني كثيرا لها علاقة بهذه القصة الحزينة. أما علاقتي اليوم بالأتراك فغالبا لا تتجاوز محاولاتي البائسة في تجنب خطابات الرئيس التركي ما استطعت إلى ذلك سبيلا، لأنه يخطب في كل الأوقات، وفي كل الأماكن، ولديه من المريدين الذين ينشرون عباراته التي يتراجع عنها قبل أن يحفظها أولئك المريدون. ومع أني لا أكره الثرثرة ـ كما تعلمون ـ إلا أن لدي مشكلة أزلية مع الزعماء الثرثارين، في الغالب فإن الزعيم الذي يكثر الخطب والمؤتمرات ليس لديه سوى هذه البضاعة. ثم إن مشكلتي الأعظم هي أن تكون هذه الخطب والكلمات مخصصة «للاستخدام الخارجي»، حين يخطب الحاكم في شعبه، ويخاطبهم ويعجبون به ويحبونه فهم أحرار في ذلك، ولا مشكلة لدي أن يصبحهم ويمسيهم بكلماته وخطبه ومواعظه. لكن الزعيم الذي يستمع لنشرة الأخبار في الصباح ثم يخطب عن كل أمر وقع في الكوكب ويهدد بني الأصفر والأحمر والبرتقالي والبنفسجي، فإنه في الغالب بياع كلام. والزبائن كثيرون كما قلت في مقال سابق عن الشعوب عاشقة الخطب الرنانة الذين يشترونها من أي أحد وفي أي وقت ومهما كان الثمن. الزبائن يحبون الخطبة لذاتها، وليس مهما أن يتراجع قائلها عما جاء فيها، بل يكون التراجع أحيانا عن طريق خطبة عصماء أخرى وهذا ربما يصنف لدى مرتادي أسواق ثرثرة الزعماء على أنه من خدمات ما بعد البيع. في الحادث الإرهابي الوحشي الذي ارتكب ضد المصلين العزل في نيوزيلندا كنت أحلم أن يكون الضحايا هم محور كل شيء، أن تكون كل الأضواء من حقهم، وعن أسباب الإرهاب الأبيض الذي بدأ في الخصخصة بعد أن كان حكرا على الحكومات الغربية. لكن الثرثارين ـ مثل صاحبنا ـ لا يحبون أن تذهب الأضواء لغيرهم، يريد أن يؤمن أتباعه بأن موت الناس بطولة أخرى تضاف إلى بطولاته المشابهة. كل مناسبة حزينة أو سعيدة أو لا معنى لها هي بالنسبة له فرصة سانحة لتسويق الكلام. وعلى أي حال .. أحد أبنائي الصغار يخرب كل شيء تطاله يده في المنزل وحين يتم ضبطه متلبسا يكون رده بكل بساطة: «ما قصدي»ـ أي لا أقصد لغير الناطقين بالعربية ـ، غالبا نضحك، ونحاول تجاهله في المرات القادمة لأن الواضح أنه يهدف من كل هذا إلى لفت الانتباه لخوفه من أن يذهب الاهتمام لأحد أخوته. وهذا طريف ومقبول ولذيذ من طفل في الرابعة من عمره، لكنه يبدو «عكا» وتخبطا لا مبرر له حين يصدر من زعيم سياسي يردف كل خطبة بأخرى يقول فيها: «ما قصدي». @agrni

مشاركة :