بغداد - في العام 2014، كان العالم يتوقع "قرب نهاية دولة العراق" على وقع الهجوم الكاسح لتنظيم الدولة الإسلامية. لكن بعد خمس سنوات، يسعى بلد الحروب لاستعادة دوره السياسي الذي قد يكون سيفا ذو حدين، في ظل الولاءات الداخلية المختلفة. من إيران إلى الولايات المتحدة، ومن السعودية إلى تركيا، ومن سوريا إلى قطر، بات العراق اليوم صندوق بريد لدول المنطقة أو اللاعبة فيها، خصوصا في ظل علاقات دبلوماسية مقطوعة بين البعض، وتصدعات استراتيجية في أخرى. فبعد حصار دولي خانق استمر عشرة أعوام في عهد الرئيس السابق صدام حسين، وما يزيد عن 15 عاما من حروب دامية، عاد العراق خلال الأشهر الماضية، ليمسي محط طائرات قادة ومسؤولين غربيين وإقليميين. فمن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وصولا إلى العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، بدا النشاط الدبلوماسي كثيفا. وفي الإطار نفسه، تستقبل بغداد قريبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره التركي رجب طيب إردوغان، وفق ما أفادت مصادر حكومية عراقية. وعليه، يطلق رئيس مركز التفكير السياسي العراقي إحسان الشمري على عراق اليوم لقب "الدولة الجسرية"، في حديث لوكالة الصحافة الفرنسية. وبالفعل، يؤكد مصدر مطلع في الحكومة العراقية أن بغداد أصبحت اليوم "ساعي بريد". وبعدما قام العراق مؤخرا بحسب مصدر حكومي بدور الوسيط بين قطر وسوريا ضمن مساعي دمشق للعودة إلى الحضن العربي، يؤكد المصدر المطلع في الحكومة أن "زيارة مستشار الأمن الوطني العراقي فالح الفياض الأخيرة إلى الرياض كانت لنقل رسالة إيرانية تركية سورية، حيال ترتيبات جديدة في المنطقة". يؤكد الخبير في شؤون الشرق الأوسط لدى معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس كريم بيطار أن العراق لاعب رئيس على الساحة الإقليمية اليوم، لكن ذلك التودد إليه هو "لأسباب خاطئة".ومعروف أن بلاد الرافدين محل صراع تاريخي على النفوذ بين واشنطن التي يتواجد جنودها على الأراضي العراقية في إطار تحالف دولي لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، وطهران التي تواليها فصائل مسلحة أسهمت بشكل كبير في دحر الجهاديين نهاية العام 2017. والدليل على ذلك، وفق بيطار، أنه لولا تلك التجاذبات "لكانت اليوم عمليات إعادة الإعمار وتوحيد السلطات المركزية أبسط وأسرع"، إذ أن العراق أصبح "ساحة معركة سياسية واقتصادية ودبلوماسية، بعدما كان ساحة عسكرية". وفي هذا السياق، يؤكد الشمري أن "أزمات المنطقة أعمق بكثير من أن يتمكن العراق من أن يكون في موقع المبادر". لكن رياح البرلمان الذي تهيمن عليه كتل مناهضة للولايات المتحدة لا تجري بما تشتهي سفينة الحكومة، إذ يسعى لرسم سياسات داخلية للدولة تتعارض مصالحها مع السياسة الخارجية للحكومة. وقد تتعرض حكومة عادل عبد المهدي لضغوط كبيرة، خصوصا بعد الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع الأميركي بالوكالة باتريك شاناهان، التي جاءت تزامنا مع تقديم نواب مشروع قانون يدعو إلى انسحاب القوات الأميركية بشكل نهائي من البلاد. ويلفت المصدر الحكومي نفسه إلى أن "شاناهان طلب من عبد المهدي تحديد موقف العراق، حيال إمكانية قيام تحالف ضد إيران". ولذلك، فإن "سياسة صفر مشاكل" التي تتمناها الحكومة مع اللاعبين على الساحة الإقليمية، تعرقلها مساعي "وكلاء وحلفاء دول إقليمية في العراق نفسه"، وفق ما يشير الخبير في الشأن العراقي الباحث في معهد الشرق الأوسط بجامعة سنغافورة فنر حداد.فبحسب بيطار "سيثير ذلك استياء إيران أو الولايات المتحدة، في حين أنه مجبر على الحفاظ على علاقات ودية مع الاثنين". وبالتالي فإن أي خطوة عكس ذلك "قد تطيح المكاسب الدبلوماسية الأخيرة للعراق، وتزعزع استقراره الداخلي"، وفق حداد. فبعد إعلانه "النصر المؤزر" على الجهاديين، انفتح العراق مجددا على دول الجوار من أبواب الحدود البرية، أولا مع الأردن غربا عبر منفذ طريبيل التجاري، وقريبا في الجنوب عبر المنافذ السعودية المغلقة منذ غزو الكويت قبل ثلاثين عاما. أما على طول الحدود الغربية الصحراوية المتاخمة لسوريا، فكان للعراق دور آخر، بتنسيق عسكري متعدد الأطراف. فبغداد اليوم هي العاصمة العربية الوحيدة التي تتواصل علناً مع جميع الأطراف في الداخل السوري، من روسيا مرورا بالتحالف الدولي والأكراد، وصولا إلى المعارضة ودمشق التي طلبت رسميا من العراق شن ضربات جوية على أراضيها ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وهذا يتماهى تماما كذلك مع إشارات غربية تؤكد على أهمية الشراكة مع العراق، ودعمه في مرحلة ما بعد الحرب. ويقول مصدر عسكري غربي طالبا عدم كشف هويته إن "التحالف الدولي استثمر مليارين ونصف مليار دولار لتدريب مئتي ألف عنصر من قوات الأمن العراقية". ويؤكد في هذا السياق أن "دول التحالف، استشرفت ما يمكن للعراق أن يكون عليه مستقبلا، وعلى يقين بأنه سيصبح ذا تأثير كبير في المنطقة".
مشاركة :