– 1 – معرض الرياض للكتاب 2019 * مليون زائرة وزائر. * اثنان وعشرون ألف طفل شاركوا في أجنحة الطفولة. * مؤلفات د. غازي القصيبي تتصدَّر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. * عروض تشكيلية سينمائية وفنية تصاحب المعرض. * ارتفاع غير مسبوق في عدد السعوديات والسعوديين على منصات التوقيع من أجيال متداخلة ومن جيل الشباب في أعمال تجريبية من الخاطرة إلى الرواية. * ارتفاع كبير في المشاركات الدولية والعربية في معرض الكتاب من دور النشر الكبيرة والصغيرة إلى قطاعات الجهاز الحكومي والقطاع الخاص والملحقيات الثقافية بالسفارات المستضافة بالمملكة. هذه بعض مؤشرات التفاعل المجتمعي الثقافي والاجتماعي التي قدّمها موقع معرض الكتاب على مختلف منصاته بما فيها نشرته الورقية ومنصة تويتر وسواهما. وهي مؤشرات حيوية ومهمة لقياس نجاح هذه الفعالية السنوية كرمز للحالة الثقافية والاجتماعية بالمجتمع السعودي، إلا أنني هنا أريد أن أضيف عليها نوعاً من القراءة السيسيولوجية «المبسطة» لمعرض الكتاب الدولي منذ بداياته الأولى إلى الآن كمورد للثقافة وكمرآة للحالة الاجتماعية والسياسية بالمجتمع السعودي. – 2 – عادة هناك عدة شروط سياسية واقتصادية منشودة ممكن أن تعتبر مقياساً لنجاح تظاهرة ثقافية مثل معارض الكتب. أحد هذه الشروط الأساسية هو شرط الحرية عموماً وشرط الحرية المعرفية أي حرية الفكر وحرية التعبير، الشرط الآخر هو شرط اقتصادي ومما يتمثّل فيه البنية التحتية للاستيعاب المكاني والتنظيمي لمثل هذا الحدث الثقافي الأفقي والقدرة الشرائية وتمكن التنقل والحركة, أما الشرط الذي ليس بأخير فهو شرط التسامح الاجتماعي معرفياً وثقافياً مع وجود تظاهرة معرض الكتاب على الأرض بحد ذاتها ومع مقتضيات التفاعل الإيجابي معها ومع تعدد مشارب المعروضات من الكتب وتعدد الأنشطة الثقافية المصاحبة، رسم، تشكيل، شعر، سرد، موسيقى، ندوات ولقاءات فكر. – 3 – ونلاحظ أن معرض الكتاب كتظاهرة ثقافية حديثة نسبياً في العالم تشهد اليوم تتطوراً مفاهيمياً وميدانياً يقودها لتصبح قبلة لطالبي المعرفة وعشاق الكتب أينما حلّت. وقد تمثّل هذا التطور في تنوّع المحتوى المعرفي لمعارض الكتب وتعدده كما تمثّل في تحول الكتاب إلى صناعة تقنية وفنية معقدة ومكلفة بما فيه إخراجها الفني وتوثيقها الرقمي. وقد شمل هذا التطور النوعي والكمي نقطة محورية وهي تفوق معارض الكتب على المعنى التجاري الربحي الضيق وعلى محدودية الرسالة السياسية التي قد تكون مستبطنة فيه كنشاط يُقام في الفضاء العام بموافقة رسمية من الدول المضيفة ليصبح من اللافت أن معارض الكتب لم تعد حكراً على ما يُعرف بشريحة المثقفينـ بل أصبحت مرتاداً أليفاً لكل طبقات المجتمع وكل أفراد الأسرة بشتى ميولهم المعرفية وبشتى المراحل العمرية. والحقيقة أنه إذا كان للنسخة العربية والنسخة السعودية بعض الحظ مما تقدم، فقد كان للنسخة السعودية من معارض الكتب وهذا ما يعنيني هنا نصيب أكبر من المد والجزر. فمعارض الكتب ككل نشاط حياتي ومعرفي ليست في منأى عن طبيعة المرحلة التنموية والحضارية التي يعيشها المجتمع وتعيشها الدولة, والتيارات والاتجاهات الشائعة في لحظة تاريخية ما. – 4 – لقد ولد معرض الكتاب بالرياض بالمملكة في أحضان الجامعة وكان ذلك في مطلع الثمانينات الميلادية أو قبلها بقليل حين قامت وزارة التعليم العالي على ما أذكر ولا بد يذكر جيلي باستضافة المعرض بالمدينة الرياضية لجامعة الملك سعود. وكان معرض الكتاب ككل البدايات معرضاً متواضعاً ببنيته التحتية وبتنظيمه وبمعروضاته نسبة لعدد دور النشر المشاركة وكذلك بعدد مرتادي المعرض والنشاطات المصاحبة إن كان هناك أي منها أصلاً, إلا أنه ومع ذلك كان المعرض يشكِّل لحظة ذهبية في التاريخ المعرفي العام بالنسبة للمجتمع السعودي وللدولة. فالأول مرة يحضر الكتاب على تنوّعه من الفكر والنثر والشعر كمادة حلال قابلة للتداول الحر علناً في المعتاد السائد وقتها والذي كان يعتبر إدخال كتب مطبوعة بالخارج إلى الوطن جريمة وكان يجعل من النجاح في «تهريب» كتاب بطولة جماعية قام بها فرد محظوظ ومغامر شجاع, ليجري تداول الكتب المهربة من يد ليد داخل دائرة صغيرة لما كان يُعرف بفئة المثقفين على ضيقها وصغرها. إلا أن تلك البداية المتسامحة لم تستمر أكثر من عام أو عامين، إذ ما لبثت أن أخذت في التلاشي إلى أن تطورت ساحة معرض الكتاب لعكس معانيها اللا أفقية الشاسعة ليصبح معرض الكتاب موطئ قدم لاحتكاك القوى الاجتماعية المتناقضة. واستشرت من المحاربة السافرة والقاسية لوجود النساء في المعرض إلى مصادرة مجموعات من كتب الفكر والأدب بناءً على تغليب سوء الظن. – 5 – والملاحظ أن معرض الكتاب الدولي بالرياض قد ظل يعاني من انعكاسات الواقع الاجتماعي في علاقة الدولة والمجتمع وعلاقة قواه الاجتماعية ببعضها البعض, ويراوح بين حلم الانعتاق وواقع الانغلاق ردحاً من الزمن حتى في اللحظات التاريخية التي شهدت انفراجة وتسامحاً في العلاقة بالثقافة وبتعدد التيارات كما كان الأمر في عهد الملك عبدالله – رحمه الله -، بل إن تداول السلطة الإدارية في الإشراف على معرض الكتاب من وزارة التعليم العالي لوزارة الثقافة والإعلام لم تؤثّر على محاولات تسنّم معرض الكتاب لاستعراض القوى السائدة ولفرد عضلات أفراد وجيوب ممن يمكن أن يُسمى مجازاً بالمد التشددي الذي سُك له فيما بعد مسمى (الصحوة)، على ما كان ولا يزال يُسمى بشكل فضفاض بالتيار الليبرالي أو ما عُرف بـ(الحداثيين). وقد كان من الملاحظ أن ذلك كثيراً ما كان يؤدي إلى افتعال مشاهد مكهربة كالمشاهد المتوترة التي تنتدب فيها ثلة من الجهة الدينية الرسمية وثلة أخرى من متطوّعي التيار المتشدّد لمنع الكاتبات من توقيع كتبهن أو نهر النساء عن التعامل مع بائعي الكتب وكأن عملية الشراء والبيع عملية لا تحدث يومياً بين الرجال والنساء في الأسواق لتصبح محرَّمة وعرضة للملاحقة إذا تمت في حيز معرض الكتاب. هذا دون أن ينجو الشباب أيضاً من المضارة. – 6 – وربما كان ذلك سيؤدي إلى إجهاض فكرة المعرض أو تصفية ذلك المتنفس الوحيد لولا أن جموع المرتادين قد بدت للمفارقة وكأنها قررت «التجاور» مع مشاهد التوتر وعدم الدخول كطرف ثالث فيه لا مع من يقوم بالمنع ولا من يستهدف به, بما فوّت الفرصة على ذلك التصارع المقنّع باسم الثقافة من اختطاف المعرض تماماً. ولهذا فرغم التوترات صمد معرض الكتاب بالرياض كمورد عزيز على من جرحهم حنين معتق لمصبات الكتب فلا تزيدهم عذابات أخيلته إلا تعلقاً بشهوة الماء, وستظل مثل هذه التظاهرة الثقافية إلى ما شاء الله حدائق معلقة لتعادل جمالياً قسوة ناطحات السحاب وغرور التطاول في البنيان كنوع من المقاومة لكل ما يشيء الإنسان ويُوحش البشر. – 7 – وبهذا قد يصح استخلاص أن مشهد معرض الكتاب بالرياض بما شهده من انكفاء وانتعاش على مدى ما يقارب أربعة عقود بتموجاته ودواماته يقدم حالة ميدانية جديرة بالفحص والتحليل والفهم لمن يريد دراسة الصعود والهبوط والركود والحركة للواقع الاجتماعي والسياسي لتلك اللحظة التاريخية التي عايشها أكثر من جيل في الصراع المقنّع والسافر ليس بين قوى اجتماعية متعدِّدة الميول السياسية وليس داخل النخبة المثقفة على اختلاف تكويناتها الفكرية، بل بين المستتب والمستبد من المفاهيم والبنى والعلاقات الرأسية والأفقية بالمجتمع وبين استحقاقات التحول الحضاري وتحدياته, بما يبرهن على أن المستقر الوحيد وجودياً واجتماعياً وسياسياً ليس إلا سنة التغيير. – 8 – ولهذا فالحديث اليوم عن معرض الكتاب في الرياض أو أي مكان في العالم هو حديث التمسك بمعارض الكتب كرمز للإرادة وللمقاومة سواء في كتابة الكتب أو في صناعتها أو في مآلاتها لأنه في هذه اللحظة بالذات أصبح مثل هذا الحديث محفوفاً بتحدي الثورة التقنية التي خلقت للعامة قبل النخبة سواء سياسية أو ثقافية منصات يومية من معارض الكتب ومنابر الرأي ومنافذ الفكر والنقد و(من المصائد أيضاً)… وهي بعتمتها وضيائها وباحتمالاتها وتحولاتها تخلق فضاءات ليس لتوقعاتها قاع وليس لسمائها سقف ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مشاركة :