كان الاعتداء الإرهابي يوم الجمعة قبل الماضية في نيوزيلندا بمثابة عدوانٍ على الإنسانية، إذ كان اعتداء علينا جميعاً كبشر، ومن واجبنا ألا نمنح هؤلاء المجرمين الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم المروعة ما يسعون إليه جاهدين من أضواء الشهرة المقيتة. لقد رأى التحالف الدولي ضد «داعش» مراراً وتكراراً كيف يختار الإرهابيون تكتيكاتهم التي تحقق لهم أقصى ما يمكن من التغطية الإعلاميّة، وكان هذا هو أيضاً شأن الهجوم الإرهابي في نيوزيلندا، إذ كان مرتكب الجريمة الإرهابية صريحاً في ضمان اختياره أساليب تكفل له خصيصاً كسب أكبر قدْر من التغطية الإعلامية، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي استطاع هذا الإرهابي الوصول إلى عدد هائل من الجمهور عبر بث حيّ مباشر للهجوم الذي نفذه، وتقول مؤسسة فيسبوك إنها أزالت حوالى 1.5 مليون مقطع فيديو للهجوم في أنحاء العالم في الساعات الـ24 الأولى من وقوعه، ولكن من حق المرء أن يتساءل: كيف سُمح أصلاً بنشر مثل هذا النوع من المواد على منصات إعلامية كهذه؟ إنه من غير الممكن لشركات التواصل الاجتماعي الاستمرار في التهرّب من المسؤولية عن المحتوى غير المناسب الذي يُنشر على منصاتها، وكما قالت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا آرديرن: «إنهم ناشرون، وليسوا مجرّد سعاة بريد، ولا يمكن أن تكون المسألة مسألة جني للأرباح، دون تحمّل للمسؤولية». ولا يقف الأمر عند توجيه اللّوْم عما حدث إلى وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن وسائل إعلام معينة لعبت أيضاً دوراً لا يمكن وصفه إلا بأنه لا يُسعف، إذ بثت وسائل إعلام مختلفة حول العالم لقطات فيديو مروعة لأشخاص أبرياء يُقتلون وهم يؤدون مناسك دينهم بسلام، ومن شأن هذا أن يطرح السؤال التالي: هل تؤدي وسائل الإعلام وظيفة الإرهابيين نيابةً عنهم؟ لماذا لا تحظر قواعد ممارسة مهنة التحرير تداول ونشر مثل هذه المواد التي تحرِّض على العنف وتبعث على الألم؟ شهِدنا خلال السنوات التي قضيناها في التحالف الدولي ونحن نكافح «داعش»، مدى الأذى الذي يمكن أن ينجم عما يُنشر في وسائل الإعلام، ونحن نعلم أن 75 في المئة ممن يقترفون الهجمات العدوانية يقومون بحملة دعائية مُغرضة قبل تنفيذهم الاعتداء، وتدلّ الشواهد على وجود صلةٍ بين مشاهدة شخص لمادّة متطرفة أو عنيفة في وسائل الإعلام أوّلاً، ثم مواصلته البحث في الإنترنت عن المزيد من المعلومات والتي تؤدي إلى زيادة تحفيزه لارتكاب جريمة مماثلة بحق الأبرياء من البشر. ولا تنفكّ حسابات الموالين لداعش ترصد أداء موادها الدعائية بانتظام، ويُنظر إلى التقارير ذات الصلة التي تنشرها وسائل الإعلام الدولية على أنها مؤشر على النجاح ومصدر للرضا عن النتيجة. ومن هذا المنطلق، فإنني أحثّ المؤسسات الإعلامية على بلورة إرشادات عامة واضحة، وتفادي نشر مقاطع مصورة لأية هجمات إرهابية إجرامية وأي شكل آخر من الدعاية المغرضة التي تسهم في إرشاد وتعليم الإرهابيين وتحفزهم على التقليد. وأشيد هنا بقرار جاسيندا آرديرن عدم ذكر منفّذ الجريمة بالاسم، فبقرارها هذا تُعرب لعائلات المتضررين من الهجوم عن الاحترام الذي يستحقونه فعلاً، إذ من غير المفروض أن يسمعوا ويشاهدوا عبارات التمجيد غير المقصود للإرهابيين، والذي كثيراً ما يُسمع في أعقاب مثل هذه الهجمات البغيضة مصدرها ذوو النفوس المريضة. وعلى رغم أننا لا نرى أبداً لقاءات تجريها وسائل الإعلام مع مرتكبي عمليات الاغتيال والقتل، إلا أنها في حالات عمليات الإرهاب غالباً ما ترى أنه من المقبول تخصيص مساحة في أعمدة الصحافة لهؤلاء المجرمين، وهي بذلك تتيح لهم تعليل دوافع جرائمهم المقيتة، وكسب الرأي العام المماثل في التوجه، والتسبب بالتالي في مزيد من الضيق والألم لعائلات المتضررين. إن الإرهاب ليس بمقصور على دين أو لون أو طائفة، كما لا يمكن حصره ببقعة أرضية واحدة، وبذلك فإننا جميعاً لنا دور في الحد من قدرة الإرهابي على التسبب في حالة من الذعر والخوف، فإذا حرمناهم من هذا الأوكسجين الذي يعتمدون عليه ويبحثون عنه فإننا نعوق تأثيرهم السام، كما نحيِّد قوتهم في إحداث الفُرقة والانقسام، ونقف متحدين انطلاقاً من إنسانيتنا في مواجهة أولئك الذين يحاولون زرع بذور الشقاق بيننا والتحريض على أعمال العنف. * مديرة في قسم الإعلام في وزارة الخارجية البريطانية.
مشاركة :