في الأول من إبريل كل عام يعرف العالم "الكذب الطريف" أو ما يعرف "بكذبة إبريل" كتقليد ثقافي تاريخي بات من التقاليد والطرائف العابرة للثقافات حول العالم وهي مسألة تختلف كل الاختلاف عن الكذب الشرير الذي يستخدم كسلاح ضد الشعوب كما يتبدى في وقت تحاول فيه "قوى الإرهاب والشر والظلام استخدام سلاح الأكاذيب ضد مصر والمصريين".ومن منظور تاريخي ثقافي فان "كذبة إبريل" ظهرت أولا في الغرب كيوم للمزاح والمفارقات و"تدبير بعض المقالب الطريفة بين الأصدقاء" و"التندر على ضحايا كذبة إبريل" التي يعود بها البعض للقرن الرابع عشر الميلادي وبدأت تنتشر على مستوى العالم منذ القرن التاسع عشر.والكذب وإشكاليات الأكاذيب حاضرة في كتب وكتابات جديدة في الثقافة الغربية مثل الكتاب الجديد الذي صدر بعنوان:"رؤية من النفق" لكيفن بريثناخ الذي يتناول في هذا الكتاب الصادر بالانجليزية تمزقات الإنسان المعاصر بين الحقائق و"الأكاذيب التي تجعل الانسان المعاصر يهرم ويشيخ قبل الآوان". ورغم منجزات تقنية وثورات معلوماتية واتصالية في العصر الرقمي فالكائن الإنساني كما يرى مؤلف كتاب "رؤية من النفق" عليه أن يمضي بعقله في كثير من الدهاليز بحثا عن الحقائق "كقطار يمضي بين انفاق لاتعد ولا تحصى".ولاريب ان "سيول الأكاذيب في العصر الرقمي والفضاء الالكتروني"، كما يشير هذا الكتاب الجديد تشكل تحديات قاسية لكل الباحثين عن الحقيقة بل وكل من يتبنى قيم الحق والخير والجمال كما لايمكن التغافل عن حقيقة أن "الإعلام المزيف والكاذب والمحرض حليف داعم للإرهاب وكل أيديولوجيات الشر". وفي العلاقة بين السياسة والصحافة ووسائل الإعلام، فإن "لغة المصالح والأجندات في عالم السياسة والعلاقات الدولية كثيرًا ما تجور على دقة وموضوعية التناول الصحفي والتغطية الإعلامية للأحداث حول العالم"، بينما يرى الكاتب الايرلندي كيفن بريثناخ أن قوة المعلومات الصحيحة تخدم الإنسان السوي الباحث عن الحقيقة ومن ثم فهي تخدم حريته.وتلك الإشكالية تتبدى أيضًا في كتب جديدة تصدر في الغرب خاصة في الولايات المتحدة مثل كتاب:"تجار الحقيقة:بيزنس الأخبار والحرب من أجل الحقائق" لجيل ابرامسون، فيما انتبه لها من قبل فنانون كبار في العالم مثل شارلي شابلن الذي يعد من أهم الممثلين الذين كشفوا عبر أعمال فنية في القرن العشرين بعض أكاذيب الصحافة الغربية بسبب المصالح والتحيزات السياسية فيما تخدم الأكاذيب دوما أعداء الحرية وهي مسألة واضحة عبر التاريخ الثقافي للأفكار والأيديولوجيات بقدر ماهي واضحة أيضًا في الصدق الفني كحليف طبيعي للحرية الإنسانية.وهذه الإشكالية مازالت مستمرة في القرن الواحد والعشرين، وإذا كان من المفترض أن يكون الإعلام صوتا يدافع عن الحق والحقيقة فبعض المنابر والصحف ووسائل الإعلام الغربية التي تصف نفسها بأنها تتحلى بمبادئ "الثقة والحيادية والنزاهة بثت تقارير مغلوطة حول المشهد المصري بصورة صارخة تتنافى مع "المهنية التي تتشدق بها"، فيما تبين لكل ذي عينين أنها سقطت في مستنقع الكذب الممنهج حسبما يلاحظ العديد من المعلقين.وكان المتحدث الإعلامي لمجلس النواب المصري النائب صلاح حسب الله قد ذكر في بيان أمس "الجمعة" أن وزير الخارجية سامح شكري نجح في سياق لقاءات عقدها مؤخرا مع قيادات وأعضاء بالكونجرس الأمريكي "في كشف أكاذيب ومؤامرات قوى الإرهاب والشر والظلام ضد مصر".وتكتسب إشكاليات الكذب المزيد من التركيب والتعقيد مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، وبعضها لا يتورع عن "نشر الأخبار الملفقة وترويج الأكاذيب وتسويق الشائعات"، كما تزداد الالتباسات في سياقات سياسية مثل المعركة المستمرة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ووسائل إعلام كبرى ورئيسية في بلاده وصفها بأنها "عدو للشعب".فبعد ان برأه مؤخرا تقرير "المدعي الخاص روبرت مولر من التواطؤ مع روسيا" اعتبر ترامب في تغريدات على موقع تويتر ان الاتهامات التي أثارتها بعض الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية الكبرى حول حصوله على دعم روسي أثناء حملته الانتخابية للفوز بمنصب الرئاسة كانت تعبر عن نزعة "التضليل" التي انتهجها صحفيون وإعلاميون وهم يرددون هذه الأقاويل كما اتهمهم "بالتحيز" في تغطيتهم لحيثيات التحقيق.وبينما يعمد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "لاستخدام سلاح التغريدات على موقع تويتر لمواجهة ما يصفه بالكذب وفضح الأكاذيب التي تستهدفه" فإن الكثير من الكتاب والمعلقين اعتبروا أن مواقع التواصل الاجتماعي مثل "تويتر وفيس بوك وانستجرام" تستخدم لبث الكثير من الأكاذيب ونشر الشائعات وإشعال الفتن في المجتمعات وتهديد استقرار الدول".وان كان من نافلة القول ان مواقع التواصل الاجتماعي وما يعرف "بالسوشيال ميديا" امست جزءا لا يتجزأ من الإعلام الجديد في العصر الرقمي بما يثيره من تحديات وتساؤلات مثل انعكاسات هذا المشهد على الخلل القائم أصلا في النظام العالمي الإعلامي التقليدي وعدم التوازن بين الشمال والجنوب فثمة حاجة أيضًا للإجابة المستندة على حقائق وأرقام بشأن تأثير هذه المواقع فيما يتعلق "بتصاعد الأكاذيب واستفحال الكذب والأخبار الملفقة في عالم اليوم".وطريف ان يعلن المسئول البرلماني الروسي في "مجلس الدوما" ديمتري فياتكين ان "قانون مكافحة الأخبار الكاذبة" في بلاده لن ينطبق أو يسري على الأخبار الكاذبة التي درجت الصحف ووسائل الإعلام على نشرها في الأول من إبريل من كل عام ضمن مايعرف "بكذبة إبريل".وأوضح فياتكين في تصريح للصحفيين أن قانون مكافحة الأخبار الكاذبة في روسيا لا علاقة له "بتقاليد كذبة إبريل" وإنما يهدف لمحاربة الأخبار الكاذبة عمدًا والتي تجلب عواقب وخيمة فيما يمكن لقارئ كتاب يتطرق للكذب في القرن الواحد والعشرين مثل كتاب "رؤية من النفق" أن يدرك التأثير الفادح لمحترفي الأكاذيب والعواقب الوخيمة للأكاذيب".فهم يصنعون غلالات كثيفة من الدخان التي ترمي "لاصطناع أجواء من الحيرة وزعزعة الانتماء فيما تتضمن مآرب قوى الشر المحترفة للافك والأكاذيب أن يتساءل الشعب المستهدف بتلك الأكاذيب حتى عن حقيقة انتمائه ومن يكون بالضبط وأين يقف على وجه التحديد"؟!والأيرلندي كيفن بريثناخ صاحب الكتاب الجديد "رؤية من النفق" الذي ينتمي "لجيل كتاب مابعد الحداثة في الغرب" كثير السفر والترحال في عالم ممزق بين الحقائق والأكاذيب كما يراه في حفره المعرفي وتآملاته ومكابداته الفلسفية. وفي سياق تأملات ثقافية حول قضايا الصدق والكذب يذهب البعض إلى أن كتابات دانيلو كيس الذي قضى في عام 1989 تعبر عما يسمى في الأدب "بفن الكذب الصادق" وهو من قلائل الكتاب الذين شغفوا بالشكل التعبيرى دون أي تخل عن الرغبة في توسيع مدارك القراء وقدراتهم على فهم واستيعاب مجريات العالم.ودانيلو كيس الذي ولد عام 1935 فى بلدة "سوبوتيكا" على الحدود بين الجبل الأسود "مونتينجرو" والمجر أحد أكثر الروائيين تفردا في النصف الثاني من القرن العشرين وحظي باشادو وإعجاب كتاب ومبدعين كبار مثل ميلان كونديرا والكسندر سولجنستين وخوان جويتيزيلو وسوزان سونتاج.ولأنه ابن "اوروبا الوسطى بامتياز واحد كتابها الذين يمثلون عدة عرقيات فيها" فان الموقع الذى كتبته الأقدار مطبوع على كتاباته حيث يتناول التجارب التاريخية في هذه المنطقة وهشاشة الدول الصغيرة وانكشافها تحت وطأة الضغوط واعباء التاريخ وتداخل الجماعات والحدود غير المنضبطة.وعندما قضى دانيلو كيس في عام 1989 كان في الرابعة والخمسين وكان قد بلغ مايعرف بالتحقق في عالم الكتابة وبات صاحب سلطة في دولة الكلمة كما حظي بشهرة كبيرة وأن كان هناك من النقاد من يرى أنه لم ينل الشهرة التي كان يستحقها بالفعل بل أن بعضهم يقول إنه تعرض لإهمال ظالم مدللين على ذلك بأنه لم يحصل على جائزة نوبل في الآداب التي كان يستحقها عن جدارة.ولئن فرضت قضايا الصدق والكذب في السياسة والعلاقات الدولية نفسها على إبداعات دانيلو كيس كما فعل في المجموعة القصصية: "العود والندوب" فإن علماء في عالمنا المعاصر يبحثون بطريقتهم للإجابة على أسئلة تتعلق بهذه القضايا وبعضها يرجع لآلاف السنين مثلما حدث مؤخرا عندما أكد علماء في جامعة اوكسفورد البريطانية بعد دراسة مستفيضة صدق ما ذكره المؤرخ اليوناني الشهير "هيرودوت" عام 450 قبل الميلاد حول طريقة بناء المصريين القدامى لسفينة شحن عبر نهر النيل عرفت في الغرب باسم "باريس".ومن قبل خضع فنان ومثقف كبير مثل شارلي شابلن في عام 1948 لاستجواب من جانب مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية للاشتباه في اعتناقه أفكار شيوعية وتعاطفه مع الاتحاد السوفييتي حينئذ وتعرض لكثير من الحملات الظالمة في الصحافة ووسائل الاعلام الأمريكية التي وصفها بأنها "تروج الأكاذيب وتنسجها حوله".أما "جهاز كشف الكذب" فلم ينجح في كشف شخصية محيرة مثل الدريتش هازين ايمز الذي كان عمله فى المخابرات الأمريكية هو مكافحة التجسس فإذا به يتجسس لصالح السوفييت ويدان في هذا الاتهام عام 1994 أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودخوله في ذمة التاريخ!غير أن الأمر الأكثر غرابة بمسلسل الغرائب فى هذه القضية أن الدريتش ايمز كان يجتاز اختبارات كشف الكذب الدورية بنجاح وبعد نجاحه في كل اختبار كان يحق أضرارا فادحة حقا بالأمن القومى الأمريكى!واذا كان الكاتب الأيرلندي كيفن بريثناخ يسعى "لتجميع شظايا وشذرات من الحقيقة لبناء قصته وتشكيل رؤيته للعالم" فالكاتب والروائي الإيطالي الراحل ايتالو كالفينو الذي يوصف بأنه "أحد سادة الرواية في العالم" اعتبر أن الروائي "ينطق بكسرة الحق الخبيئة في قاع كل كذبة" فيما أشار لمسألة "الصدق الفني في الابداع سواء كان شعرا او رواية" عندما قال ليس المهم أن يقول الكاتب الكذب او الصدق "لأن الأكاذيب يمكن ان تكون ممتعة وبليغة وكاشفة شأنها في ذلك شأن أي حقيقة ندعي قولها بصدق".وأبدى كالفينو الذي قضى عام 1985 شكوكا عميقة حيال "هؤلاء الذين يدعون قول الحقيقة الكاملة عن انفسهم والحياة والعالم "معتبرا أن "الفانتازيا" في الكتابة قد تكون سبيلا نحو الحقيقة وضرب المثل برائعته "لو أن مسافرا في ليلة شتاء" ليقول:"كان هدفي أن أتحدث عن حقيقة ليس بمقدوري أن أرويها بأية طريقة أخرى".وإذا كان المخلصون للشعر يشعرون بالضيق حيال المقولة القديمة والشهيرة: "أعذب الشعر أكذبه" حتى أن البعض منهم يرد على هذه المقولة بمقولة مضادة:"بل أعذب الشعر أصدقه" فإن الجدل بشأن "الصدق والكذب" طال الإبداع الروائي أيضًا ولا ريب أن قضايا الصدق والكذب ستبقى حاضرة في الفن وتعبيرات وقوالب الإبداع الفني كتعبير أصيل عن الحياة ككل.. فهل يتراجع مد الكذب الشرير وتبقى طرائف كذبة إبريل؟!!
مشاركة :