محرر المدينة يدخل نفق الإدمان ويكشف أسرار عالم الهلاوس

  • 3/8/2015
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

لم تكن مغارة الإدمان التي فكرت في الاقتراب منها مفتوحة الأبواب بل عصيّة الإغلاق تحتاج لكلمة سر مجهولة الحروف. الأمر الذى جعل مهمتي صعبة ومخيفة وضبابية، مهمة استدعت مني الاقتراب بهدوء من هذا العالم المطرود الذي أوصلته حبوب الكبتاجون واللفافات المحشوة بأنفاس الدخان الى مقعده الدائم على أرصفة الشوارع ذات الوسادات الخشنة، اقتربت متقمصًا رداء المدمن وخصال التائهين بتأثير الهلاوس والخيالات لأكتشف - ولأول مرة - أسرار هذا العالم التائه ذهن شارد العقل فاقد الأماني والأحلام. اقتربت بقدم تتقدم وأخرى تتراجع للوراء مخافة كشف ستر محاولتي المهنية التي استهدفت من ورائها تنوير الرأي العام بالحقيقة ونجحت في رسم صورة أقنعت الجالسين على الأرصفة أنني مدمن تائه وجدت فيهم الضالة المنشودة وجئتهم لأشاركهم التحليق في سحائب دنياهم الخاصة. على كنبات خشبية قديمة وصناديق حديدية تآكلت بفعل الصدأ وبقايا سجاد قديم لا تزيد كل قطعة منه عن مترين وجدتهم قد مدوا الأقدام، كل يطل الى السماء بعيون مفتوحة وكأنه يحاور سحابة شاردة أو نجمًا بعيدًا، أما ثيابهم فكانت بالية قديمة كما الأجساد تفوح منها الرائحة من مسافة بعيدة وكأن قطرات المياه لم تلامسها من أشهر طويلة الرحلة بكل ما حملته من فصول ومشاهد أكدت لي أن الخطايا لا تموت وأن السعادة الزائفة التي قدمتها حبوب الكبتاجون تنتهي - لا محالة - بخراب البيوت وطلاق الزوجة وبيع المسكن وبراءة العائلة وابتعاد المجتمع. العالم المطرود كما رصدته بعيني وعشت على مدى يومين كاملين مع أبطاله لا يلامس رأفة المارة ولا يستجلب دمعة رحيم، حتى المتعافي منهم رده المجتمع وقاده حظه العاثر إلى النفق المخيف وحمله من جديد الى مقعده الخشبي ووسادته الحديدية ورصيفه الدائم نعم دخلت المغارة لم أجد ما وجده على بابا من دهب وياقوت بل وجدت مآسي ودموعًا وحكايات مؤلمة.. فتعالوا نبدأ الحكاية أسفل الجسر وقتما عزمت على دخول هذا العالم الغريب كنت أتهيب العاقبة وأخشى أن أصطدم بأناس لا يتحسبون لمواقفهم جيدا ولكنني بدأت وكلي أمل أن أقدم للمجتمع - ولأول مرة - صورة حيّة من الواقع الذي يعيشه هؤلاء.. ارتديت ملابس رثة وامتنعت عن الطعام كي أكسو ملامحي بخطوط الإعياء والشحوب، ومن ثم أخذت مكاني على الرصيف ليكون لي مكان إقامة ووسادة ليست ناعمة. رصد غريب تحت جسر الستين مقابل حي السبيل بجدة عرفت المدمنين بنفسي وكأنى اقدم بطاقة هويّة عنوانها «مدمن قديم» فنظروا الى عيوني وردائي وحركات أصابعي ليتأكدوا من صدقي ويطمئنوا لجواري.. رأيت شرائح عدة ولا أبالغ إذا قلت إنهم مؤهلون علميا ولكنها الخطيئة كما ذكرت سلفا بدّلت مشوار حياتهم ونقلتهم من مكاتب الوظائف الوثيرة وميادين العمل إلى هذا الرصيف القاسي في قشرته والقاسي أيضا في مصيره.. كنت أستمع للحكايات وأسايرهم بحكايات مثيلة فيما قلبي يتمزق.. بعضهم روى لي تفاصيل المتعة التي يعيشها بعد تعاطي أقراص الكبتاجون وآخر كان ينسج لى بفعل تأثير الهيروين قصصًا خيالية وكأنه أعظم سيناريست جلبته السينما العالمية، فيما يداهمني آخر بأنه حاول العودة إلى طريق الصلاح ولكن المجتمع ردّه عن هذا الطريق بعد أن قرعه بضربات الرفض والكراهية. فرشة بالية على فرشة بالية لا ترد بردًا ولا تقي من حر .. فيما الملابس موضوعة في كيس بلاستيكي كتبوا عليه أسماءهم مخافة الضياع.. أما الليل فكان بحق طويلا لا تنتهي حكاياته الغريبة في نسجها ومضمونها حتى بت في حيرة من قصص هؤلاء.. هل هي حكايات عاشوها أم تمنوا أن يعيشوها أم سمعوها من آخرين؟ الأكثر يقظة ولأنني الأكثر يقظة كنت أسجل في ذاكرتي الحكايات واستنفر الجميع ليروي أكثر ما بداخله فقال لي أحدهم خدمت في القطاع العسكري، ودخلت نفق الإدمان بسيجارة حشيش قدمها لي أحد رفقاء السوء حتى وصلت إلى ما أنا فيه.. أثناء خدمتي بالقطاع العسكري تعرفت على مجموعة من الأصدقاء أوهموني بأن الحشيش يجعلني أكثر هدوءًا وسكينة وعبقرية وبدأت التجربة.. كنت لا أجد قبولا من أهلي بعد اكتشاف امري وعشت مرفوضا من الأقارب والجيران ممن أصبحوا ينظرون لي نظرة المجرم خاصة بعد خروجي من السجن. رفض الأهل يقول حالة مرتبكة كنت أعيشها عندما لا أجد حشيشًا أتعاطاه حيث بت أتصرف تصرفات فيها من العنف الشيء الكثير ذهبت إلى العلاج في مستشفى الأمل وقضيت 50 يوما ومن بعدها خرجت وعدت إلى المنزل، ولكن النظرة لم تتغير.. فقليل يقبلني عضوا صالحا وكثير يرفضني ويكره التعامل معي لأننى صاحب خطيئة وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل فصلت من عملي وهجرت الأهل رغم أنني بين فترة وأخرى أحاول العودة إليهم إلا أنني لا أجد القبول منهم. عشت طريدًا أبحث عن مكان يؤويني إلى أن وجدت من الرفاق ما يحاكيني في أزمته.. اتجهنا إلى الجسور لأنها المكان، الذي يستقبلنا دون أن يسألنا عن خطايا الأمس ويقينا شرور النظرة الاستحقارية من المجتمع بأكمله، بحثنا عن وظائف ولم نجد.. حاولنا العودة إلى الوضع السابق والاندماج في المجتمع، ولكن لا فائدة فالمجتمع لايريدنا ويرفض وجودنا. صاحب الموال وأكمل كان لي صديق قديم «مطرب» يشدو لنا في مجمع الأمل أجمل المواويل، التي تطرب المسامع.. وبعد خروجه من المشفى لاقى نكران المجتمع ورفضه وصدم بكراهية الأهل والأصحاب فأصر على الإدمان من جديد تعذيبا لذاته وانتقاما من المجتمع حتى فقد عقله تمامًا وأصبح اليوم «يجدف على الأرصفة». الفصل من الوظيفة حكاية أخرى بطلها رجل يقارب عمره الـ45 عامًا يجلس بجوار العمود المقابل في ذات المكان يقول عملت في شركة نفط كبرى، ولكن غيابي المتكرر وسيرة التعاطي التي لاحقتني تسببت في فصلي، كما أن الإدمان أوصلني لحالة غريبة فبت لا أطيق زوجتي وأبنائي وأضربهم بقسوة وبلا سبب حتى قررت زوجتي طلب الطلاق، وتم خلعها مني كوني لأملك أهلية الاستمرار.. ذهبت للعلاج، ولم استطع المواصلة وخرجت بلا فائدة فالمجتمع يلاحقني بوصف المدمن حتى وصلت إلى ما أنا عليه أنام هنا وأكل هنا حتى لا أكون عالة على أحد.. لا أنكر أننى أحاول رؤية أولادي ولكن للأسف لا أجد نظرات الرضا والقبول منهم. حديث الذكريات تحت جسر الستين أجلس مع أقراني- المدمنين - ونقضي وقتنا في الحديث عن ذكريات الأمس.. لا أحد يمنعنا من النوم هنا لأننا بتنا أشبه بالمعروفين لدى رجال الأمن، ونحن لا نقوم بإيذاء أحد فخطيئتنا على أنفسنا. ومع الحديث الذي يمزق القلب فاجأني الأربعيني بقوله أريد وظيفة أستطيع من خلالها أن أستأجر منزلا وأسكن به بدلا من النوم على الرصيف.. لا أملك إلا سيارة مهترئة تتعطل أكثر مما تمشي حتى ولو حاولت أن أصلحها فمن أين أجد المال الذي أصلحها به. أبو جني أبوجني كما يناديه رفاقه نموذج ثالث كسا الشيب لحيته وأصبح لا يبحث إلا عن الوقار بعد خطيئة الإدمان والتي تعاطى خلالها الحشيش والكبتاجون وخسر بسببها الأهل والعمل والأقارب قال: ذهبت زوجتي إلى أهلها ومعها الأبناء، ولم أستطع الوصول إليهم وخسرت منزلي، ولم أجد مكانًا ألجأ إليه إلا جسر الستين فرغم أنني تعالجت من الإدمان الا أنني خسرت كل شيء.. وبكلمات يائسة قال حتى لو تعافيت أين الوظيفة، التي أستطيع من خلالها أن أعوض أبنائي عن الزمن الضائع. حشيش وهيروين نموذج جديد تنقل بين كل أنواع المخدرات بدءًا بالحشيش وانتهاء بالهيروين طيلة 19 عامًا.. لم يجنِ خلال هذه الرحلة- حسب وصفه - إلا الضياع والمذلة والفقر وفقدان الأهل والوظيفة قال لقد أجبرني أحد أقاربي للذهاب إلى مستشفى الأمل، وتلقيت العلاج بعد أن حاولت الانتحار وخضعت للعلاج وبعد خروجي أنكرني الأهل وما زالت نظرتهم لي بأنني مجرم وبقائي معهم خطر عليهم وعلى بقية إخواني فلا أسمع سوى كلمات جارحة بسبب خطيئة الماضي.. عدت مجبورا إلى رفقاء السوء بعد أن وجدت الرفض التام من أسرتي والمجتمع كله. كنت معتادا زيارة الجمعيات الخيرية، ولكنهم اكتفوا بإعطائنا مواد غذائية فيما نحن نرغب في المال لكي نصرف منه على أنفسنا. الحكايا لا تنتهي تحت جسر الستين وقصص الإدمان تحتاج لرحلات جديدة، فكثيرون رفضوا أن يقاسموني الحديث وداهمونى بقولهم: إذا أردت أن تنام فنام ودعنا ننام ولسان حالهم يقول لعلنا نحلم بمن يغفر خطيئتنا وينتشلنا مما نحن فيه. الإجازة الحكومية بعد أن أنهيت جولتي أسفل جسر الستين توجهت إلى مستشفى الامل بجدة حتى وصلت إلي المدير المناوب وقلت له أنا مدمن وأرغب في العلاج فرحب بي وقال: اذهب لفتح ملف وسيتم إحالتك فورًا إلى الطبيب في العيادة وقلت وبعدها يتم تنويمي قال إذا رأى الطبيب أن حالتك تستدعي تنويمك سيتم ذلك فور وجود سرير شاغر. سألته هل أذهب أم أنتظر إذا لم أجد سريرًا شاغرًا؟ فقال لك حرية الاختيار في الانتظار أو في الذهاب ونحن نقوم بالاتصال عليك، ونحن نعمل على استقبال الحالات على مدار 24 ساعة، وقلت أنا الآن لدي عمل سوف أقدم إجازة وآتيكم وقال لي لا يحتاج أن تقدم إجازة نحن نمنحك إجازة خلال فترة التنويم من أحد المستشفيات الحكومية وليس من مستشفى الأمل حفاظًا على سمعتك في العمل ولكن الاهم هي الرغبة لديك في العلاج فنحن لا نجبر أحدًا على ذلك..انصرفت بحجة أنني سوف أحضر هويتي من السيارة. المزيد من الصور :

مشاركة :