من الشائق دائما أن نرى كيف يبدو أدبنا العربي المعاصر في أعين الأدباء والنقاد الأجانب. ويزداد هذا تشويقا إذا كان قراؤه قامات فكرية وإبداعية عالية يعتد برأيها لأنه قائم على خبرة واسعة واطلاع على مختلف الآداب العالمية. من هذه القامات الروائي المعاصر ج.م. كوتزي J.M. Coetzee الحاصل على جائزة نوبل للآداب في 2003. وكوتزي المولود في جنوب أفريقيا، أستاذ بجامعة كيب تاون، وصاحب عدد من الروايات المهمة نقلت إحداها، وهي «في انتظار البرابرة» (العنوان مستوحى من قصيدة للشاعر اليوناني السكندري كاڤاڤيس) إلى اللغة العربية. لكوتزي مقالة عن رواية نجيب محفوظ «الحرافيش» (1977) تظهر في كتابه النقدي المسمى «شواطئ أغرب: مقالات (1986 - 1999)» الناشر: سيكر ووربرج، لندن 2001. Stranger Shores: Essays 1986 - 1999. London: Secker and Warburg، 2001 أريد أن أتوقف عندها هنا. قرأ كوتزي الرواية في ترجمتها الإنجليزية التي قامت بها كاثرين كوبام، كما قرأ عددا من أعمال محفوظ الأخرى المترجمة إلى تلك اللغة. وهو يبدأ مقالته بتعريف عام بمحفوظ وعالمه الروائي الذي يكاد ينحصر في القاهرة - وأحيانا الإسكندرية - ولكنه لا يمتد قط إلى عالم الريف سواء في دلتا الشمال أو صعيد الجنوب. ويقدم ملخصا للرواية يعين القارئ الأجنبي على تتبع أحداثها، ثم يدلي بتعليقاته النقدية عليها. يقول كوتزي إن أحداث «الحرافيش» تجري في إحدى حواري القاهرة. والحارة هي المكان المفضل لمحفوظ. أشخاصها أناس عاديون، وفتوات كانوا يحكمون الحارات والأحياء حتى مطلع القرن العشرين إلى أن حلت الشرطة وسائر أجهزة الدولة الحديثة محلهم، وأصبحوا من ذكريات الماضي. إن 3 من آل الناجي يتعاقبون على عرش الفتونة، ولكن أحوال الحرافيش (أي العامة، والمصطلح يرد عند الجبرتي مؤرخ الحملة الفرنسية على مصر) لا تتغير، فالفقر والمهانة والاستغلال هي دائما نصيب الفقراء. وعند كوتزي أن «الحرافيش» ليست رواية بقدر ما هي سلسلة حكايات متتابعة يرتبط بعضها ببعض. إننا لا نجد هنا بطلا مشتركا بين الحكايات، وإنما نجد ضحية مشتركة هي الناس الذين يعانون. ومحفوظ يلجأ هنا إلى أساليب القص الشعبي والرواية الشفوية – على نحو ما يفعل روائي من جيل أصغر سنا هو جمال الغيطاني – مبتعدا عن مواضعات الواقعية الأوروبية التي ميزت أعماله السابقة مثل «خان الخليلي» و«زقاق المدق» و«بداية ونهاية». ويرى كوتزي أن الرواية تشتمل على كثير مما قد يبدو للقارئ الغربي غريبا أو محيرا. هناك، بداية، عدد كبير من الشخصيات الثانوية تظهر ثم تختفي. وفي غمرة ذلك يصعب على القارئ أن يستوعب سلاسل الأنساب، أو من أنجب من، ومن تزوج من، ومن طلق من. وهناك، ثانيا، الاختلافات الثقافية بين المجتمع الشرقي المحافظ والمجتمع الغربي المتحرر. فنحن هنا نجد شبانا وشابات يتوقون إلى الحب والمتعة ولكن المواضعات تفرض عليهم أن ينعزل الذكور عن الإناث، وأن يلجأوا إلى كافة الحيل من أجل التلاقي، وأن يقضوا أياما بل أسابيع كاملة في أحلام يقظة لا تتحقق. وفيما يخص لغة محفوظ يعترف كوتزي بأنه لا يستطيع الحكم عليها، لأنه يجهل العربية. ولكنه – من خلال الترجمة – يلاحظ أن محفوظ يستخدم بعض كلشيهات محفوظة للتعبير عن عواطف شخصياته، فالقلوب عنده ترفرف، والدم يثور، إلخ.. ولكنه - رغم ذلك - يتمكن في اللحظات المحورية من أن ينفخ في هذه الكلشيهات حياة جديدة لا تعوزها النضارة. ويضرب كوتزي مثلا لهذه الحيوية التعبيرية هذه السطور من الرواية: «رآها لأول مرة في موسم القرافة بصحبة أمها فوق كارو. من موقفه أمام حوش شمس الدين رآها وهي تثب من العربة. سمراء غامقة السمرة، ضاربة للسواد، ممشوقة القد، واضحة القسمات، مفصلة الأعضاء، باسمة الوجه، فائضة الحيوية والأنوثة مثل نافورة، فاضطرم بالرغبة والاندماج. تلاقت الأعين في حب استطلاع متبادل، واستجابة عامة مثل أرض خصبة. انصهر بأسرارهما الهواء المطهو بأشعة الشمس والأنفاس الحارة والأحزان وشذا الخوص والريحان والفطائر. مال نحو منعطفها مثل عباد الشمس: واستحثه الموت المحيط بأن يسرع وألا يتردد». وينتهي كوتزي إلى أن الرواية أمثولة رمزية عن بحث مصر عن الحاكم العادل. إن الفتوة هنا قد ينساق مع مغريات السلطة والجاه والمال فيغدو مستبدا لا يعنيه إلا دوام سلطانه وفرض الإتاوات والحصول على من تروقه من فتيات الحي ونسائه. وقد يظل محتفظا بنزاهته الخلقية وحرصه على إقامة العدل في الحارة وتوزيع ثرواتها على نحو منصف. وفيما بين هذا وذاك يعيش الحرافيش في ترقب. وتتصاعد من تكية الدراويش أغان صوفية يوردها محفوظ باللغة الفارسية حفاظا على جو السر والغموض الذي يحيط بالتجربة الصوفية.
مشاركة :