لطالما لازم هاجس الأمن اليمنيين، لذا كانت الأماكن الشاهقة والوعرة هي المساحات التي يفضلون بناء منازلهم فيها. وبينما يرى باحثون أن اليمنيين تركوا السهول واتجهوا للبناء على سفوح الجبال وقممها، حرصاً على استغلال أي مساحة تمكن زراعتها، يعتبر آخرون أن اليمنيين انصهروا في محيطهم وانسجموا مع طبيعتهم حد التماهي والعشق والذوبان لتصبح منازلهم جزءاً لا يتجزأ من تلك الطبيعة مهما بلغت من قسوة. وعلى رغم كثرة المباني التي تمكن مشاهدتها على قمة كل جبل ومنحدر صخري في عدد من مناطق اليمن، خصوصاً الجبلية منها، فإن هناك الكثير من القصور - الحصون التي حظيت بشهرة بالغة بفضل طابعها المعماري الفريد وأهميتها من الناحية التاريخية، ومن أشهرها «دار الحجر» التي تقبع على صخرة شاهقة غرب مدينة صنعاء التاريخية وتهوي أطرافها على جوانب وادي «ظهر» الذي يحملها على أكتافه. وعن خلفيات بناء هذا القصر يقول الدكتور أحمد النهمي لـ «الحياة»: «انتقى اليمنيون قمم الجبال المطلة على الوديان والأنهار موضعاً لبناء قصورهم في مشهد يعكس قدرة اليمني القديم على تطويع الطبيعة والاستمتاع بمباهجها واستثمار إمكاناتها في تحصين قصور حكامه بما تمثله من رمزية سيادية، من الاقتحام والسطو في الحروب والمنازعات وحمايتها من الكوارث الطبيعية كالسيول والأمطار». وهذا الأمر ينطبع كلياً على قصر «دار الحجر» الذي يعد واحداً من هذه الشواهد التاريخية، وسمي بهذا الاسم نسبة إلى الصخرة التي بني عليها ويعود أصلها إلى حصن سبئي (مملكة سبأ) في منطقة تسمى وادي ظهر، وهو واد ذكره المؤرخ الهمداني بأنه «موضع فيه قلعة ومصنعة وفيه نهر عظيم يسعى بين جنبي الوادي فيه ألوان من الأعناب». وأعاد ترميمه العالم الشاعر علي صالح العماري بأمر من الإمام المنصور علي بن العباس في القرن الثامن عشر الميلادي. وعن عجائب الإبداع الفني في قصر دار الحجر يضيف النهمي: «على رغم بناء القصر على صخر شاهق، ارتفع البناء سبع طبقات تتضمن 35 غرفة. ومن أعجب ما في هذا القصر بئره التي يصل عمقها إلى 180 متراً، والتي تخترق الصخرة الشاهقة التي بني عليها القصر». وفي أقصى شرق اليمن، وفي ساحل حضرموت تحديداً، تتكرر تجربة دار الحجر في صنعاء على رغم المسافة الشاسعة بين المنطقتين الأمر الذي يؤكد غلبة هذا الهاجس والنمط المعماري عند اليمنيين القدماء. ويبرز قصر الغويزي الشهير في مدينة المكلا ويعد نسخة مصغرة بعض الشيء من دار الحجر. ويعود تاريخ بناء هذا القصر الذي كان مقراً لسلاطين الدولة الكسادية التي حكمت حضرموت إلى القرن السابع عشر، ويعتقد كثير من الباحثين والمؤرخين أن بناء القصر على هذا المكان المرتفع يأتي للدواعي التي غلبت على نمط البناء في اليمن إثر دوامة الصراعات السياسية. فمنه كانت تجرى مراقبة الغارات العسكرية ليجمع بين وظيفتي قصر وحصن في آن واحد. حروب قبلية ونزاعات اجتماعية الباحث في القضايا التاريخية إسماعيل قحطان يوضح أبرز الخلفيات التي دفعت اليمنيين إلى بناء المساكن والقصور في المناطق المرتفعة كالجبال أو الصخور العالية بقوله: «الحروب القبلية والنزاعات الاجتماعية كان لها دور في بناء اليمني بيته في مناطق مرتفعة للحصول على المكان الآمن من أي هجوم مباغت من خصومه. كما أن للعوامل الطبيعية، كالسيول القوية عن الأمطار، والتي تعمل على جرف المنازل في المناطق المنخفضة، دوراً في اتخاذ المناطق المرتفعة للبناء، كما أن الصخور تشكل أساساً صلباً لا يحتاج إلى التكاليف الباهظة للبناء في المنطقة الترابية». ومن جانب آخر، كان اليمني يتجنب البناء في الأراضي الزراعية لأنها تمثل مصدر رزقه، لذلك بنى فوق الصخور الصماء القليلة الفائدة. لكن حب اليمني للطبيعة والتمتع بجمالها دفعه إلى البناء في المناطق المرتفعة، وما زال على هذه العادة حتى وقتنا الحاضر في بناء ما يسمى «الطيرمانة»، وهي الغرفة في أعلى مكان في البيت. وفي السياق ذاته يقول الباحث والكاتب عبدالرحمن مراد: «طبيعة الحياة والتضاريس فرضت شروطها على لجوء أهل اليمن إلى بناء الحصون والبيوت على المرتفعات والأحجار والهضاب البارزة، وكان المبرر لذلك هو التحصين والمنعة ومغالبة الصراعات الاجتماعية والسياسية». ويـــضــيـــــف: «المعـــروف أن الطبيعة اليمنية قائمة كغيرها على العصبيات، وهذه باعثة لكل تموجات الصراع التاريخي. لذلك، كان التاريخ محملاً بكل أشكال الصراع. وقد عملت التضاريس في اليمن على شحذ الفكر الصراعي ليكون أكثر تفاعلاً وتوظيفاً لتلك الطبيعة بما يتوافق وروح الواقع وطبيعته. ونحن نلاحظ اختفاء ظاهرة البناء تلك بعد شعور الإنسان بالأمان وخفوت أدوات الصراع في شكلها التقليدي، وإذا وجدت في حاضرنا فهي لأغراض مزاجية تفرضها الحالات التفاعلية والقائمة على مزاج المقيل والقات».
مشاركة :