يقول صاحب رواية زوربا في (تقرير الى غريكو) " يتحطم قلبي حين أتذكر تلك السنوات التي قضيتها كطالب جامعي في أثينا. فعلى الرغم من أنني كنت أنظر، فإنني لم أكن أرى شيئاً." وفي موضع آخر يروي لنا هذا الحوار المحيّر : " ذات يوم سمعت زقزقة، ورأيت عصفوراً أزرق فولاذياً يطير فوقي، فأوقفت فلاحاً كان يمر قربي وسألته بلهفة : أي نوع من العصافير هذا يا صديقي ؟ ماذا يسمى ؟ فأجاب بهزة من كتفه : المسكين. من يهتم له. إنه لا يؤكل." ما الذي حدا بكازانتزاكيس أن يطلق هذه الزفرات على ماضيه وأيام شبابه في المرحلة الجامعية ؟ وما الذي يريد أن يقوله لنا، خصوصاً انه كان يسابق الزمن ليسبك هذا التقرير ويصدر لنا هذه الوصايا ؟ في طواف سريع على المعاجم نجدها تقول إن الفرق بين النظر والرؤية يكمن في أن النظر الى الشيء يعني توجيه البصر نحوه وأننا قد نراه وقد لا نراه ؛ كقولنا : انظرُ ولكني لا أرى شيئاً. أما رؤية الشيء فيتفق معظم اللغويين على أنها إدراك المرئي وتمثُّل حقيقته. ومن هنا تأتي محاولة فهم ما كان يريد أن يقوله لنا كازانتزاكيس من حيث أن فعل النظر الى الأشياء يحيل الى ظاهرة ومصيبة (القشورية) وعدم القدرة على التوغل الى أعماق معاني ودلالات الأشياء. ويبدو أن جزءاً من معاناة الانسان العربي يعود إلى كونه في كثير من الحالات غير قادر على رؤية الأشياء، وأن حدوده تتوقف عند النظر إليها دون إدراكها، مما أدى الى تسطيح قضايانا المعرفية والتنموية، وبالتالي فقدان هذه المجتمعات بوصلتها في التعامل مع كثير من القضايا المصيرية. وكذلك هو موقف كازانتزاكيس مع الفلاح وكيف انه بعد كل هذه التفاصيل والافتتان والجمال والفضول المطلق نحو معرفة المزيد عن هذا الطائر يكتشف كازانتزاكيس ان هذا الفلاح لا تهمه التفاصيل والإعجاب ولا يأبه بها، والسؤال عنها، بالنسبة له، ضرب من ضروب العبث. لا بل ان هذا الفلاح المهموم بلقمة العيش يشفق على هذا الطائر ويعتقد أن لا فائدة منه ولا من وجوده. النظر دون الإدراك هو حالة من حالات تعطيل العقل يقود الانسان الى الوقوع في شرك التفكير السطحي، وهو أيضاً مؤشر على عدم النضج، وحاله أشبه بمن يتوقف بمنتصف الطريق. مما يؤدي حتماً الى الارتباك وبالتالي عدم القدرة على إنجاز ترجمة الأفكار الى واقع منضد ومتماسك. في هذا الملمح المقتضب يبدو أن عواقب النظر الى الاشياء وعدم رؤيتها له علاقة بكون الكثير منا يتلقى القيم ولا يراها، وينظر الى اللوائح والأنظمة والقوانين ولكنه لا يراها، بالإضافة الى أن مجتمعاتنا تحولت، بسبب هذا الخلل، الى إمبراطوريات من المستهلكين، أي أنها ببساطة قادرة على استهلاك الاشياء ولكنها تقف عاجزة عن استيعابها. A1250@hotmail.com
مشاركة :