لو كان الإرهابي اليميني المتطرف يعلم بأن عمليته الإجرامية على بيوت الله ستكون نتائجها بالشكل الذي جرى لما قام بفعلته النكراء، فقد تفاجأ بأن المجتمع الدولي وفي مقدمتهم الحكومة والشعب النيوزيلندي يلتفون حول أسر الضحايا، مستنكرين تلك العملية الإجرامية ومتعاطفين معهم. نيوزيلندا الجزيرة الوادعة بالقرب من أستراليا عرف عنها التسامح والتعايش والسلام، ولم تشهد عبر تاريخها ما يعكر صفو الأمن والاستقرار فيها، بل لم تشاهد الأعمال الإرهابية والخطابات التحريضية التي أصمت آذاننا في الشرق الأوسط، ولكنها استيقظت على عمل إرهابي بشع استهدف مصلين في بيوت الله (مساجد) وفي يوم مبارك (الجمعة) الذي يعتبر عيداً لدى المسلمين. المؤسف أن المجرم الذي نتحفظ على ذكر اسمه حتى لا ينال شهرة في التاريخ قد خطط ودبر وجهز لعمليته الإرهابية، بل وقام بتوثيقها من خلال التصوير والبث المباشر على صفحته في الفيسبوك وكأنها لعبة (بوبجي) الألكترونية، وقد حول صراعه في العالم الافتراضي لوجود أعداء وخصوم والهاجس الذي يعيشه بسبب الإسلاموفوبيا إلى عملية إرهابية حية استخدم فيها كل أنواع الأسلحة ليدخل التاريخ من بوابة الشيطان. مع بشاعة العملية الإرهابية وصور الدماء والأشلاء لأناس معتكفين في مساجدهم لأداء صلواتهم إلا أن الموقف المشرف للحكومة النيوزلندية كان كبيراً وبحجم الحدث، ولولى تلك الوقفة المشرفة لتحولت نيوزيلندا اليوم إلى ساحة صراع شبيه بما يحدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا، لقد استطاعت الحكومة اليوزيلندية من أحتواء الموقف، وتضميد الجراح حين أوقفت خطابات التحريض التي تلت العملية الإرهابية، بل وتصدت للإرهاب الذي لا دين له ولا وطن، لذا جاءت الإدانة الدولية لتلك العملية الإرهابية التي أعادت للأذهان التفجيرات التي استهدفت المساجد والكنائس ودور العبادة في الكثير من الدول. الموقف المشرف جاء من رئيس وزراء نيوزيلندا (جاسيندا أرديرن) التي تولت رئاسة الحكومة في أغسطس 2017م بعد أن كانت رئيسة لحزب العمال، فقد تصدرت الصحف ووسائل الإعلام حين خرجت لتمسك بزمام الأمور إثر العملية الإرهابية، تارة بحزم وإصرار على إنفاذ القانون في المجرم، وتارة أخرى بعاطفة المرأة الجياشة لضحايا المسجدين بمدينة كرايست تشيرتش. لقد ظهرت رئيسة الوزراء (أرديرن) وهي ترتدي الفستان والحجاب الأسود تعبيراً عن حجم الحزن والأسى الذي أصاب المجتمع النيوزيلندي، وقد كررتها للتأكيد على التضامن والمواساة مع أسر الضحايا، بل وقامت بمعانقتهم والتربيت على أكتافهم، وحادثتهم بلغتهم مع بعض الآيات والأحاديث النبوية، والأجمل هي كلماتها التي أرسلتها عبر تغريدة على موقع التويتر حين قالت: (ما حدث في كرايست تشيرتش هو عمل عنف غير مسبوق، وليس له مكان في نيوزيلندا، وكثير من الضحايا هم من أعضاء جالياتنا المهاجرة ونيوزيلندا هي موطنهم، وهم منا). إن رئيسة الوزراء النيوزلندية (أرديرن) نالت التعاطف الدولي معها منذ اللحظات الأولى للمجزرة، فقد وقفت مع أسر الضحايا، وهدأت من روعهم وطمأنتهم، وأرسلت رسائل الحب والمودة لهم، وبأنهم جزء من الدولة النيوزيلندية حين سمحت لهم برفع الأذان والوقوف دقيقتين حداداً على أروح شهداء نيوزيلندا التي ارتوت بدمائهم حتى تدفع النيوزلنديين للحصول على كتب للتعريف عن الإسلام، ولو كان الإرهابي يعلم بأن كل ذلك سيحصل لما أقدم على فعلته النكراء. لقد وقفت رئيس الوزراء النيوزلندي (أرديرن) في البرلمان واستهلت خطابها إثر العملية الإرهابية التي راح ضحيتها خمسون شخصاً أثناء تأديتهم الصلاة، وأصيب 50 آخرون، بإلقاء تحية (السلام عليكم) باللغة العربية، وهي تحية كل المسلمين القائمة على (السلام)، ولترفع صوتها قائلة: (لقد سعى منفذ الهجوم لتحقيق أمور كثيرة من عمله الإرهابي، منها الشهرة، ولهذا لن تسمعوني أبدا أذكر اسمه)، وقد تعهدت بتعديل القوانين الخاصّة بحيازة وامتلاك السلاح بعد الهجوم على المسجدين. لم تكتف رئيس الوزراء النيوزلندية (أرديرن) بالمواساة والتضامن مع أسر الضحايا بل إنها شاركت المسلمين في صلاتهم يوم الجمعة، في حدث تاريخي نادر، فقد حضرت للحديقة التي أقيمت فيها الصلاة وجلست تستمع إلى خطبة الجمعة، وهذا الموقف يندر حدوثه، فهو موقف إنساني نبيل يعكس صورة التسامح والتعايش والسلام الذي تعيشه نيوزيلندا حيث تحتضن شعوب العالم ومنها المسلمين، وما دفاعها عن المسلمين إلا تأكيد على أن الناس يعيشون سواسية رغم اختلاف عقائدهم ومذاهبهم وثقافاتهم. من هنا فإن الدعوة لجميع شعوب العالم بالعودة إلى السبب الذي من أجله خلقهم الله وجعلهم خلفاء في الأرض، لذا يجب القيام بالمسؤولية الإنسانية والتصدي للخطابات العنفية والأعمال الإرهابية، وشكراً رئيسة وزراء نيوزيلندا (جاسيندا أرديرن) فقد تعلمنا منك الكثير.
مشاركة :