يكتب المصريون صفحة مضيئة في الثقافة الديمقراطية بنقاشات عامة وحوارات مجتمعية بكل الحرية حول التعديلات الدستورية المقترحة في مرحلة حاسمة من قصة كفاح شعب عظيم هو وحده صاحب الكلمة الحاسمة بشأن هذه التعديلات التي ستطرح للاستفتاء العام. ومع اتفاق فقهاء وخبراء القانون الدستوري على أن أي وثيقة دستورية قابلة للتعديل وفقا للمصالح الوطنية العليا وحركة التطور في المجتمع واحتياجاته فإن صياغة التعديلات الدستورية تتضمن أبعادا ثقافية ضمن أبعادها المتعددة كما تثري الدراسات المقارنة مع تجارب الشعوب الأخرى والخبرات الثقافية الدستورية في العالم.وكان رئيس مجلس النواب الدكتور علي عبد العال وهو من كبار فقهاء وأساتذة القانون الدستوري قد أوضح أن التعديلات الدستورية المقترحة تعالج بعض النصوص التي ثبت بالتجربة عدم مناسبتها للواقع وتفرضها تحديات كثيرة تتعلق بالمرحلة وظروف تمر بها المنطقة معيدا للأذهان أن هناك دساتير في دول عريقة تم تعديلها بعد عام واحد فقط من إقرارها. وفى دولة مثل الولايات المتحدة - ينظر الأمريكيون للوثيقة الأصلية لدستورهم باعتبارها الأهم فى تراثهم المكتوب كما يحلو لهم التفاخر بأن هذا الدستور الذي صيغ فى أربعة شهر هو أقدم الدساتير الديمقراطية المكتوبة فى العالم الحديث وأول دستور فى العالم على الإطلاق يعرض على الشعب لإقراره.ومن الثابت تاريخيا أن الرئيس الراحل بنجامين فرانكلين والذى يوصف بأنه من أهم وأبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية كان على ثقة بأن وثيقة الدستور تنطوى على عيوب ومطاعن كثيرة كما أن هؤلاء الذين سهروا على صياغتها ليسوا بمعصومين من الخطأ والزلل.ومن هنا خضع الدستور الأمريكى بعد ذلك لتعديلات عديدة رغم أنه في الأصل أحد "أقصر وأوجز الدساتير في العالم" حيث لم يزد مجموع كلماته عن 4400 كلمة فيما جرت العادة في دول كثيرة أن يقوم خبراء لغويون من أصحاب الثقافة الرفيعة بمراجعة صياغة نصوص مشروع الدستور أو تعديلاته لضمان اتساقها وسلاسة إيقاعها تمهيدا لطرحه أعلى الشعب فى استفتاء عام. وإذا كانت عملية صياغة مسودة الدستور الأمريكي استغرقت أربعة أشهر فقد تضمنت هذه المدة أسبوعين للتنقيح وتهذيب النص من جانب لجنة تضم فقهاء فى اللغة وخبراء فى الصياغة والأساليب غير أنه بحلول يوم الاثنين الموافق السابع عشر من سبتمبر عام 1787 كانت الوثيقة جاهزة لتلاوتها أمام أعضاء الجمعية الفيدرالية لتصبح بعد مناقشات مستفيضة دستور الولايات المتحدة الأمريكية.وضمت الجمعية التي ناقشت مشروع الدستور الأمريكي قبل إقراره من الشعب 55 عضوا يمثلون الولايات الأمريكية المختلفة ومن أصحاب الخلفيات الفكرية والسياسية والاقتصادية المتعددة بينما بلغ عدد أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور في فرنسا بعد ثورتها 500 عضو وشهد دستورها الحالي 24 تعديلا.وإذ يحذر فقهاء القانون الدستوري من مخاطر الجمود أو التحجر في أي دستور ويؤكدون على ضرورة تفادي أي تناقضات بين إيقاعات المجتمع وسياقاته التاريخية وتطلعات الجماهير وبين النص الدستوري ناهيك عن تجنب تقييد الحق الأصيل للشعب وحريته في تعديل دستوره حسب إرادته ومتطلباته فإنهم يتفقون أيضا على أن الشعب وحده هو صاحب الكلمة الحاسمة في أي تعديلات دستورية وهو ما يتحقق بطرح هذه التعديلات المقترحة للاستفتاء العام.وفي الوقت ذاته يتفق هؤلاء الفقهاء والخبراء في القانون الدستوري على أن الدستور هو "أبو القوانين" وبمثابة عقد اجتماعي لتحديد النظام السياسي للدولة ومنظومة الحقوق والواجبات دون أن يعني ذلك أبدا "جمود الدساتير وعصيانها على التعديل كلما دعت الحاجة الحقيقية لذلك".وفيما شهد مجلس النواب المصري نقاشات مجتمعية موسعة حول التعديلات الدستورية المقترحة منحت فيها الفرصة كاملة لكل الآراء ومختلف الاتجاهات مهما كانت مختلفة مع اتجاه الغالبية فإن رئيس مجلس النواب الدكتور علي عبد العال قد أكد على أن "الشعب هو الذي سيقول كلمته في الاستفتاء".وشدد رئيس مجلس النواب على أن "أبواب المجلس مفتوحة أمام الجميع" للمشاركة في جلسات الحوار المجتمعي بشأن التعديلات الدستورية فيما تحفل الصحف ووسائل الإعلام بآراء متعددة حول هذه التعديلات الدستورية المقترحة.وفي تصريحات متلفزة قال رئيس اللجنة التشريعية بمجلس النواب المستشار بهاء الدين أبو شقة انه جرى استطلاع آراء كافة الشرائح اثناء جلسات الحوار المجتمعي بشأن التعديلات الدستورية مؤكدا على ان "الكلمة النهائية للشعب".ولعل ما تشهده مصر الآن من نقاشات حرة حول التعديلات الدستورية يضيف صفحة جديدة لثقافة الديمقراطية والقيم الدستورية في العالم ككل ويثؤي المعنيين بالتاريخ الثقافي والدراسات السياسية والدستورية. وحتى الآن يشكل الدستور الأمريكى بملابساته التاريخية وعملية صياغته وإجراءات إعلانه مادة ثرية للمعنيين بالدراسات الدستورية وهو دستور كتب أصلا في أربع لفائف من جلد الرق حجم كل منها لا يزيد كثيرا عن قدمين عرضا وقدمين طولا غير أن بعض الأفكار التى تضمنتها هذه الوثيقة حظت بالخلود وانتقلت عبر المحيطات.والوثيقة الأصلية للدستور الأمريكى التى استهلت بـ: "نحن الشعب" كتبت بلغة بالغة الأناقة والرشاقة غير ان من كتب الديباجة بخط اليد مال بالمقدمة قليلا نحو اليسار فيما مالت كلمات بقية الوثيقة قليلا نحو اليمين ومن هنا بدت الوثيقة الخطية متعرجة إلى حد ما أو "زجزاجية قليلا".واذا كانت هناك تأكيدات متعددة على أهمية الاستفادة من التراث الدستورى الثرى لمصر فضلا عن التراث الدستورى العالمى ودساتير الديمقراطيات العريقة فمن المثير للتأمل أن الوثيقة الخطية الأصلية للدستور الأمريكى ظلت تنتقل من مكان لآخر حفاظا عليها باعتبارها أغلى تراث مكتوب للشعب الأمريكى.وانتقلت هذه الوثيقة حسب الدواعى الأمنية من مقر الكونجرس إلى مقر وزارة الخارجية فوزارة الخزانة ثم وزارة الدفاع بل إنها أخفيت لفترة فى أحد المطاحن بفيرجينيا حتى قدر لها أن تعرض لأول مرة أمام المواطنين عام 1924 بمكتبة الكونجرس.وفى عام 1952 نقلت الوثيقة الأصلية للدستور الأمريكى داخل عربة مصفحة وفى ظل حراسة مشددة إلى مقر الأرشيف القومى لتستقر هذه الوثيقة جنبا إلى جنب مع وثيقة إعلان الاستقلال وميثاق الحقوق ويتحول المبنى الدائري الذي تعلوه قبة بمقر الأرشيف القومى إلى مزار للمواطنين الأمريكيين.وإن كان الآباء الثقافيون للمجتمع الأمريكى قد أنجزوا مشروع هذا الدستور الذى يؤكد على حق المواطن الأمريكى فى السعادة فإن للمصريين أيضا آباؤهم الثقافيون وتراثهم الدستورى الثرى فضلا عن إشارات واضحة حول الحق فى السعادة.فمنذ عشرينيات القرن التاسع عشر تحدث أحد آباء الثقافة المصرية الحديثة وهو رفاعة الطهطاوى عن مصر التى يتمناها "كبيت لسعادة كل المصريين نبنيها بالحرية والعلم والمصنع وواقع الحال ان العديد من المفكرين و"الآباء الثقافيين المصريين" ركزوا على أهمية التفاؤل والأمل وحق المصرى فى السعادة فيما يتجلى الحب فى نظرتهم لمصر واعتزازهم بالانتماء لهذا الوطن مع فهم أصيل للشخصية المصرية. والذاكرة الثقافية المصرية لم ولن تنسى ما قاله عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين:"أحب مصر لأنها مصر" مضيفا:"أنا المصرى وإذا ذهبت مذهب المحدثين فى السياسة فأنا مصرى قبل كل شىء وبعد كل شىء".ورأى طه حسين أن المصريين لا يفكرون فى هويتهم لأنها مسألة محسومة "إلا حين يريدون أن يتحدثوا فى العلم أما مصر التى تملأ قلوب المصريين وتدفعهم إلى الأمل والعمل دفعا فهى فوق علم العلماء وبحث الباحثين وفلسفة الفلاسفة". ويصف الكاتب الرحل توفيق الحكيم شخصية مصر بأنها "ليست كتابا مفتوحا وإنما هي هيكل قديم مغلق يحوى كنوزا قد ضاع مفتاحه وعلينا قبل كل شىء أن نفتح بابا ونستخرج ما فيه" بينما قال الدكتور زكى نجيب محمود:"إننى أزهو بمصريتى" معيدا إلي الأذهان أن مصر كانت دائما محور التاريخ.ومنذ نحو نصف قرن كتب الأديب الكبير يحيي حقي مقالا عن كيفية كتابة الدستور على مستوى اللغة والبناء وهي العملية التي باتت تعرف في الكتابات المتعلقة بفلسفة الكتابة الدستورية "بالدسترة". فعملية "الدسترة" أو عملية كتابة الدستور كما نظر لها يحيي حقي تقوم على صياغة محكمة واضحة من حيث اللغة والبنية للنص الدستوري كما انها لابد وان تعكس تطلعات المواطنين وتأمين حياة كريمة للجميع وتحدد حركة الوطن دولة ومؤسسات ومجتمع في المستقبل من حيث النموذج التنموي وإدارة مؤسسات الدولة وفق التطورات العالمية في هذا المقام.وفيما كان الأديب يحيي حقي قد حذر منذ عقود من لجوء من يكتب الدستور "إلى الغموض من قبيل التستر أو التعقيد من قبيل المعابثة" يتفق الكثير من المثقفين على أنه من حيث اللغة والبناء لا يجوز أن يأتي النص الدستوري "غامضا أو مراوغا بغية "الحصول على منتج دستوري عظيم القيمة.والكثير أيضا من المثقفين والأكاديميين والدارسين ذهبوا إلى أن عملية الكتابة الدستورية "فرصة للتجدد ليس فقط في مدرسة الكتابة الدستورية وإنما في مدارس الاقتصاد والفلسفة والفقه والاجتماع والعلوم السياسية" فهي "حالة ثقافية ابداعية شاملة".ومع أن بلدا كبريطانيا يوصف بأنه "عريق في الديمقراطية" إلا أنه لا يملك دستورا مكتوبا وإنما مجموعة من القوانين والمباديء والأعراف التاريخية والنصوص التشريعية ك تشريعات "الإصلاح العظيم" التي صدرت عام 1832 ومازالت ملهمة على المستوى الثقافي لكتابات وكتب جديدة تبحث عن إجابات أعمق لمواقف النخب والجماهير في تلك الأيام الفاصلة في تاريخ بريطانيا بقدر ما تثري الثقافة السياسية مثل الكتاب الذي صدر لأنتونيا فريزر بعنوان:"السؤال الخطر:دراما الإصلاح العظيم". وإذا كان هذا الكتاب يتحدث عن لحظات مفصلية في تاريخ بريطانيا وأهمية اتخاذ قرارات حاسمة في لحظات بعينها يكشف عنها الواقع فإن الثقافة السياسية المصرية تقدم الآن صفحة مضيئة في سياق التعديلات الدستورية المقترحة.إن الجماهير التي خرجت في مصر لتصنع ثورة 30 يونيو 2013 إنما أسهمت في صنع التاريخ الإنساني للحرية ومقاومة الاستبداد وهي تثبت دوما وعيها وإدراكها العميق بأهمية استكمال مسارات المشروع النهضوي الوطني ومعالم المستقبل المنشود فيما كان رئيس مجلس النواب الدكتور علي عبد العال قد لفت إلى أنه " لا اقتصاد قوي دون استقرار سياسي".وتأتي التعديلات الدستورية التي ستطرح للاستفتاء العام فيما يمضي المصريون قدما في مسيرة الإصلاح على طريق "الدولة التنموية الديمقراطية القادرة على تحقيق التقدم والعدالة الاجتماعية" وتتوالى قرارات تاريخية تسعد كل المصريين وتصب بوضوح في مربع العدالة الاجتماعية مثل زيادة الرواتب والمعاشات التقاعدية وإعادة هيكلة منظومة الأجور وإطلاق اكبر حركة ترقيات للعاملين بالدولة وتشجيع المشاركة السياسية وهي قرارات يتفق المعلقون على أنها تسهم بكل الإيجابية في دعم التماسك المجتمعي وحقوق المواطنة لكل المصريين.وإذا كان مثقف كبير في الغرب هو جون راولز الذى أصدر فى عام 1971 كتابه الشهير:"نظرية العدالة" وهو ابن المجتمع الأمريكى بثقافته وأفكاره وقيمه قد وضع فكره فى خدمة قضايا تقدم شعبه فإن المثقفين الوطنيين المصريين يقفون دوما مع جماهير شعبهم وفي خندق الدفاع عن قضايا الشعب والتقدم والمستقبل الأفضل.يتدفق النيل بطمي الأزمنة وتتعدد الصور في قصة شعب عظيم يصنع الآن ملحمة جديدة لوطن قدره أن ينتصر..وطن أقوى من كل التحديات الجسام والعواصف والرياح..فسلام عليك يا مصر مع طلعة كل صباح.
مشاركة :