الكاتب والباحث السياسي انمار نزار الدروبي هندسة الفكرة وتصميمها تخضع لجملة من البديهيات لكي توضع بصيغة عقلانية ، وقد تبدو هذه العمليّة أقرب للعبث من ناحية الشكل ويصعب تحديد أبعادها بما يشبه شكل الصخور والحصى في الطبيعة. لكن العقل البشري لديه مقدرة فائقة جدا في توظيف الأشياء وتسخيرها لصالحه إبتداءا من تدجين الأحياء والنباتات حتى صناعة الآلة والإبحار في السماء واختراعه وسائل التدمير الشامل مع تقريب كل المسافات، إزاء كل هذا الذكاء والتفوّق لم ينجح في تحقيق السلام على الأرض ولازال التوحّش مغروسا في جيناته الوراثية. الفكرة في ذاتها عُملة بوجهيها العملي والنظري، عمليّا تحكمها الحاجة لتبدع بالصناعة والابتكار والبناء وجميع مصادر الإنتاج، أما الوجه النظري فهو يرتقي الى المعرفة وفن الجمال وعلم السياسة والتنظيم وتهذيب العقل والنفس البشرية. موضوعيا تخضع جميع الأفكار لعملية تصنيف تبعا لقيمة تداولها وما تعني، ولو فرضنا معيار فائض القيمة على الأفكار سنجد تضخّم كبير من اللغو المعرفي الذي يضعف ويشوّه الأصول الفكريّة، ثم تذهب الى استهلاك مادة المعرفة ضمن سلسلة معقدة أشبه ما تكون بالهضم البيولوجي في معدة العقل البشري . من هنا يأتي موضوع استثمار الأفكار وفق اتجاهين هما التخطيط والتنظير ، التخطيط يتناول الجانب العملي ليبلورها في مشاريع الإنتاج والبناء والتقدم التقني، والتنظير يدجن الفكرة ويشحنها في مشاريع إيديولوجية أو يترجمها معرفيّا على مسرح الفنون والأدب والتصنيف العلمي ... سنأخذ جانب التنظير في مقالتنا لكي نبيّن خطورة استثمار التراث الفكري الديني وحشره في تيارات جارفة ومدمرة للمجتمعات والعقول. بالتحديد نتناول التنظير في إطار ما يسمى الإسلام السياسي. بعد دخول الدول الاستعمارية الغربية لمنطقة الشرق الأوسط بادرت الى إنشاء دول و أنظمة تحاكي تجاربها في الحكم وشكلت حكومات مع مجالس برلمانية وسمحت بحرية تشكيل الأحزاب والصحافة وكثير من الأنشطة الثقافية التي تخدم مصالحها. لا شك بأن العقل الاستعماري قد درس واقع المنطقة وجمع المعلومات الكافية عنها بما في ذلك الجوانب الاجتماعية والدينية والثقافية، وبغية السيطرة والاحتواء تم تشكيل جيوش عسكرية محلية لحماية الحدود وقوات درك أو شرطة لفرض الأمن الداخلي إضافة لذلك فقد تم تأسيس الأحزاب بهدف احتواء الشارع والشرائح الاجتماعية من خلال تعبئتها وحشدها في أنشطة محددة وإعدادها فكريا وثقافيا بما ينسجم وتطلعات الاستعمار ، لكن يبقى تساؤل عن أهميّة تشكيل أحزاب دينيّة طائفية في مجتمعات متعايشة ومنسجمة تاريخيّا لا يتجاوز انتمائها الديني حدود التشريع المدني وطقوس المناسك والعبادات ؟ عند هذه المسألة يكمن الخبث الاستعماري، العقائد الدينية عندما يتم حشرها في أيديولوجية حزبية ستحمل معها قدسيتها الراسخة في عقول المؤمنين، تلك القدسيّة لا تسمح بالنقاش أو النقد ولا تقبل أي إضافة أو اجتهاد على حساب ثوابت الدين، باختصار هي منغلقة على نفسها ولا تنسجم مع فكر الآخر إلا من باب النفاق والتقيّة. الأخطر في إقحام الدين أيديولوجيا بالسياسة هو أنه سينزع قدسيّة التعايش الاجتماعي فيسحق كل من يعارض أفكاره ومعتقداته الحزبية بفرض قدسيتها الدينيّة التي لا تقبل الشراكة. من توخي فائدة هذا الخطر لدى المستعمر وجملة مهام أخرى تم التنظير لتأسيس الأحزاب والجماعات الدينية بمختلف اتجاهاتها الطائفية ، بل حتى تسليحها وتمويلها واستخدامها في حروب الوكالة. لقد حرص الاستعمار على خلق تناقضات وإحداث صراعات داخلية بين الشعوب عندما يشعر بتهديد نفوذه ومصالحه. لا يخفى على المتابع لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين أن يعلم ما هو الدور التخريبي والإجرامي الذي نفذته في مصر وكثير من البلدان الإسلامية ، بدون شك إطلاقا إن تنظيم القاعدة الإرهابي هو الجناح العسكري الخاص لتنظيم الإخوان الدولي. كذلك حزب الله الذي أسسه الخميني في إيران والفروع المتعددة لهذا الحزب خصوصا في لبنان والعراق تحت عنوان حزب الدعوة الإسلامية وعناوين أخرى تمثلها المليشيات الطائفية.
مشاركة :