يا كل رجال العالم.. الحب حرية

  • 3/10/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لم أجد مقعدا شاغرا. تمسكت بالحاجز العلوي حفاظا على توازني من اندفاع "المترو" الكثير التوقف. يتوقف ويندفع مرة أخرى وهذا الرجل المسن لا يبالي بوقوفي أمام مقعده، ولا يهتم بساقي الملتصقة بجسده إثر الزحام الغفير خلفي وحولي. كل ما كان يهمه هو مساعدة زوجته التي أحنت رأسها له لنزع ما ابيضّ من شعرها. كان في كل مرة ينزع شعرة بيضاء ترفع رأسها مبتسمة وتتناولها منه وتحني رأسها مرة أخرى، ويبدأ مرة أخرى فرز شعرها بحثا عن شعرة بيضاء. استمرا طويلا يفعلان ذلك دون ملل. هي تحني رأسها وترفعه متناولة ما أبيض من شعرها، وهو يبحث ويفرز ويقطف كمزارع نبيل يعتني بحديقة أحلامه. أنا أيضا لم أمل تأملهما، رغم أن الطريقة كانت تتم بالآلية نفسها إلا أنها في كل مرة تبدو مختلفة. في المرة الأولى كان المشهد مدهشا كما هو دون أن أضيف مؤثرات داخلية مني، ولا أعلم حين كررها في المرة الثانية أم الثالثة حاولت أن أتخيل أول لقاء حدث بينهما: كيف أقنعها بأن تمنحه قلبها؟ كيف وقع في حبها؟ كم سنة مضت وهما ينامان في فراش واحد؟ كم مرة بكت في حضنه؟ وكم تضحية قدمتها له؟ في المرات التالية كنت أراهما يتخاصمان. هي ترفع صوتها وهو يخرج من المنزل غاضبا. هي تبدي الندم وهو يسامح. هو يخطئ وهي تغفر. في المرات التالية التي أحنت رأسها له تخيلتهما قبل أن يلتقيا ويعرفا بعضهما. كانت تنتظره دون أن تعرفه، وهو يبحث عنها بين حقول الربيع، وحين وجدها لم يقطفها. اعتنى بها كمزارع خبير يعي أن أجمل مكان لأجمل وردة هو موطنها الأول أرضها الأولى، وكل ما عليه فعله بعد أن يجدها، هو أن يمنحها حريتها وينشغل بحمايتها والاعتناء بها، ويخشى أن يهملها فتذبل. توقف المترو في محطة حقول الشاي، وهَمّا بالمغادرة. وقف قبلها وناولها يده لتقف. ناولته عصاه يتكئ عليها وغادرا وهي تستند على ذراعه. جلست في أحد مقعديهما الشاغرين بعد أن وقفت طويلا، وقرأت خبر: "بوسي تعود إلى نور الشريف بعد 9 سنوات من الانفصال"، وفي تفاصيل الخبر أن بوسي كانت برفقة نور الشريف أكثر من أي وقت مضى بعد إصابته بالمرض وشاركته رحلة العلاج. كانت برفقته أكثر من أي وقت مضى، رددت هذا الجزء من الخبر وولد بداخلي سؤال كبير وأنا الذي ما زلت مشدودا لانحناءة السيدة العجوز برأسها لزوجها الحنون. سؤال كبير أبحث عن إجابة له في أوجه كل عابري محطات المغادرة، كل زوار مكتبات العالم، في تجاعيد الشيوخ وفي ملامح بائعي الأرصفة. لماذا عادت بوسي إلى نور الشريف؟! لماذا رغم كل سنوات الفراق التسعة تعود؟! ولماذا يعودان بعد الرحيل؟! تقول السيدة سارا فولدينق في كلماتها المترجمة على مدونة معطف فوق سرير العالم: "حاول أن تمتلك الكون وسترى أن هذا مستحيل. حاول أن تمتلك إنسانا وستكون قد خسرت"، وتقول أيضا: "لا توجد طريقة تمكنك من الحفاظ على شيء يريد المغادرة، هل تفهم؟" فلسلفة الرحيل شاقة للباحث فيها، فلسفة العودة شقاء لمن يحاول أن يفهمها. رحلت "بوسي" 9 سنين، ثم قررت العودة. الخبر كالربيع على موقع قناة العربية، وانحناءة رأس السيدة لزوجها الحنون على مقاعد عربة المترو ما زالت راسخة في ذاكرتي وأنا أقرأ الخبر. نحن كل رجال العالم لا نعي أن الحب ليس امتلاكا بل حرية، ولو رحلت، إن كانت تحبك ستعود إلى الأبد، سترحل بعيدا عنك كما رحلت بوسي عن نور الشريف، وستعود إلى الأبد كما عادت بوسي لنور الشريف. وحين تعود افعلْ كما الرجل المسن في المترو، دعها تثق أنك أعظم مصفف شعر في العالم، أنك أول فلاح زرع الورد في الأرض، أنك الرجل الوحيد الذي يستحق أن تحني رأسها له، يقطف لها الورد الأبيض في عربة مترو مزدحمة.

مشاركة :