أنقرة العاصمة الإدارية، إسطنبول العاصمة التاريخية، إزمير عاصمة الكماليين وأنطاليا العاصمة السياحية. ذلك الثقل الذي تمثّله هذه المدن في الذاكرة التركية وفي الحاضر التركي بات خارج سيطرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، بعد سنوات طالت من الهيمنة على قرار عشرات الملايين من سكان الحواضر الرئيسية لتركيا. الصفعة التي تلقّاها أردوغان جاءت من حيث لا يتوقع، ومن مكمن استخفاف له ولأنصاره من فئة يتندر أعضاء حزب العدالة والتنمية بتسميتها “أصحاب الياقات البيضاء”، ويقصدون بهم سكان القسم الأوروبي من إسطنبول، ومن سياسي شاب وطموح وضع مستقبل أردوغان وأناه المتورّمة في عين العاصفة. ما الذي حدث؟ إنه أكرم إمام أوغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري، الذي أصبح خلال ساعات قليلة، الخبر الرئيسي في نشرات الأخبار حول العالم، خاطفا الأنظار بتحقيقه انتصارا مفاجئا في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول على حساب رئيس الوزراء التركي السابق بن علي يلدريم، مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم. ولد إمام أوغلو عام 1970 في قرية جيفيزلي بمدينة طرابزون المطلّة على البحر الأسود شمال شرق تركيا، درس في مدرسة طرابزون الثانوية، وتخرّج من كلية إدارة الأعمال بجامعة إسطنبول، وحصل على درجة الماجستير في إدارة الموارد البشرية، ثم بدأ حياته المهنية عام 1992 من خلال شركة عائلية تنفذ أعمال البناء، شغل لاحقا منصب رئيس مجلس إدارتها. لعب كرة القدم هاويا خلال سنوات دراسته، ثم لعب محترفا في نادي طرابزون. وبالإضافة إلى دوره الرياضي والسياسي والاقتصادي، كان له دور نشط في الحياة الاجتماعية والثقافية. فهو عضو بالعديد من المنظمات غير الحكومية في مقاطعة بيليك دوزو إحدى مدن القسم الأوروبي من إسطنبول التي يعيش فيها منذ عام 1991. وبسبب نشاطه هذا، أصبح رئيسا لحزب الشعب الجمهوري في بيليك دوزو، واستمرت شعبيته في التوسّع حتى تمّ انتخابه رئيسا للبلدية هناك، حيث حصل على نسبة 50.85 بالمئة من أصوات الناخبين بالانتخابات البلدية التي جرت عام 2014. وخلال وقت قصير سلط إمام أوغلو الانتباه إلى حزبه في بيليك دوزو نتيجة التوسع الحضاري بالمدينة التي حقق بها إنجازات كبيرة ظهرت عام 2015، أي بعد توليه المنصب بعام واحد فقط. فكانت مدينته حديث وسائل الإعلام التركية باعتبارها المفضّلة لدى سكان إسطنبول، فنال ثقة زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو في 18 ديسمبر الماضي، بترشيحه ليكون مرشح الحزب في الانتخابات البلدية عن مدينة إسطنبول. الصدمة وبداية النهاية تقدّم إمام أوغلو بطلب لمقابلة أردوغان لمناقشة سبل تنمية إسطنبول والنهوض بها ولكن طلبه قوبل بالتجاهل، لكن أردوغان لم يكن يدري حينها أنه يتجاهل الرجل العلماني الأتاتوركي الذي سيجرّد الإسلاميين من رئاسة بلدية إسطنبول التي سيطروا عليها منذ العام 1994. انتبه العالم إلى صعود هذا الشاب، وأخذت وكالات الأنباء تردد أنّ الانتخابات المحلية التركية أعلنت عن ميلاد نجم سياسي جديد في إسطنبول، رغم حصوله على تمويل أقلّ بكثير، مما تلقاه مرشح الحزب الحاكم، وأن إمام أوغلو صدم الطبقة السياسية التركية بأكملها، بل حتى مؤيديه، بعد ظهوره بشكل بارز، في المنافسة على منصب عمدة إسطنبول، لافتة إلى أنّ فوزه الواضح، مثبتاً أنه خصم لا يستهان به، في مدينة مهمة، يقطنها أكثر من 15 مليون نسمة. يتساءل أردوغان وقيادات حزبه عن الأسباب التي أدت لهذه الخسارة الكارثية، وإلى هذا العقاب الجماعي من الأتراك بعدم التصويت لمرشحي حزب العدالة والتنمية، ولكن من يتتبع الانهيارات في تركيا بسبب سياسات أردوغان واستئثاره بالسلطة يجد لما حدث تفسيرا منطقيا. العملة المحلية هوت لأدنى مستوياتها منذ عقود، لتخسر نحو 40 بالمئة من قيمتها خلال العام الماضي فقط، فضلا عن ارتفاع معدلات التضخّم ووصوله إلى أرقام غير مسبوقة بنحو 25 بالمئة. لكن أردوغان، بعقلية الدكتاتور، واجه هذه الأزمة بالإعلان عن زيادة جديدة في الكهرباء بنسبة 37 بالمئة، وفي البنزين بنحو 19 قرشا، وأيضا بإغلاق منافذ بيع الخضراوات منخفضة الأسعار، كنوع من العقاب ضد الشعب التركي الذي لقّنه درسا لن ينساه. قانون الوصاية قد يكون أبرز بنود الاستراتيجية الجديدة التي يضعها أردوغان لمواجهة خسارته الكبيرة، حيث تتوارد الأنباء عن تجهيزه لقانون لطرد مرشحي المعارضة الفائزين من رئاسة البلديات، وتعيين أوصياء من حزبه بدلا منهم يتجاهل أردوغان وحزبه بيانات مؤسسة الإحصاء التركية التي كشفت ارتفاع مُعدّل التضخم في تركيا 1.03 بالمئة خلال مارس الماضي، وأن مؤشر أسعار المستهلكين في تركيا ارتفع بنسبة 19.71 بالمئة على أساس سنوي، كذلك مؤشر أسعار المنتجين 1.58 بالمئة ليبلغ معدل الزيادة السنوية 29.64 بالمئة. يبدو بالفعل أنها بداية النهاية للحزب الحاكم، ما يعني أن أيام أردوغان في السلطة قد تكون معدودة، برغم الحملات الشرسة التي تولّى بنفسه إدارتها من مسيرات ومؤتمرات وحشد انتخابي ضخم. فبعد قيامه بتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وتوسيع صلاحياته بشكل غير مسبوق، إلى الدرجة التي أصبح فيها الرجل الأوحد، استحوذ أردوغان على جميع السلطات بما فيها رسم السياسات العامة للدولة، والتفرّد بصياغة الموازنة العامة والتحكّم بالسياسات النقدية للبنك المركزي، ونفّذ منذ منتصف يوليو 2016 أوسع موجة من القمع والتنكيل بالخصوم السياسيين مكرّسا تركيا كدولة بوليسية. لقد رسّخ أردوغان يوما بعد يوم من خلال خطاب العدالة والتنمية السياسي نبرة مثيرة للانقسام، ووصف المعارضين بأنهم إرهابيون وهدّدهم بالملاحقة القضائية. ونتيجة لذلك فقد باتت خسارة إسطنبول تعني مضامين أخرى، بعد أن باتت المعارضة تسيطر على مدن بها 70 بالمئة من إجمالي الناتج المحلّي للبلاد، حيث القوة الاقتصادية والحضور السياسي العريق للأتراك. وبات الخطر يحيق بأردوغان كما يؤكد غابرييل ستيرن رئيس قسم أبحاث الاقتصاد في مؤسسة أوكسفورد إكونوميكس، الذي يقول إنه “على المدى القصير بإمكانك وضع الضمادات المؤقتة، لكن على المدى البعيد، إذا لم تعالج المشكلات الأساسية، سيكون هناك المزيد من التداعيات”. في تركيا وحدها الحزب الحاكم ورئيس الجمهورية من يطعن في انتخابات عملت أجهزة الدولة على تنظيمها وإدارتها. أما الطعون التي تقدّم بها العدالة والتنمية فقد قلبت السحر على الساحر، وجاءت نتائجها لصالح أحزاب المعارضة، حيث كشفت مصادر من حزب الشعب الجمهوري عن زيادة عدد أصوات مرشحها إمام أوغلو، في صناديق الاقتراع التي قررت اللجنة العليا للانتخابات إعادة فرزها، بناء على الاعتراض المقدّم من الحزب الحاكم. حصل إمام أوغلو على 450 صوتا إضافيا، في مقاطعة قاضي كوي، التابعة لإسطنبول، مقارنة بنتيجة الفرز الأولى، كما حصل على 315 صوتا إضافيا في منطقة باغجيلار، و150 فى اسكدار، و115 في بنديك. وبيانات اللجنة العليا للانتخابات، تشير إلى أن الفرق بين إمام أوغلو وبن على يلدريم، الذي يبلغ 24 ألفا و55 صوتا، من المتوقع أن يتجاوز الـ30 ألفا. أما إمام أوغلو الفائز برئاسة بلدية إسطنبول فقد أكد أن “الاعتراضات التي تقدّم بها العدالة والتنمية على نتائج الانتخابات، الهدف الوحيد منها هو تشويش العقول”، وأضاف “ومن هنا أدعو اللجنة العليا للانتخابات للقيام بوظيفتها، ووقف مثل هذه الممارسات، حتى لا ننسى الوضع الاقتصادي والسياسي الصعب الذي تمر به البلاد، وحتى لا يسيء أحد لصورة تركيا أمام العالم. لا داعي إلى مزيد من دفع البلاد نحو الفوضى، لأن ذلك ليس في صالح تركيا، ولا في مصلحة أي طرف”. كآبة السلطان “نعترف بخسارة بعض البلديات الكبرى”، هكذا صرّح أردوغان وتوارى عن الأنظار، يلملم خيبته وفشله. فطبيعته وشخصيته المتبجّحة والمتعالية منعته من ممارسة هوايته المفضلة في حب الظهور وعشق الأضواء وبهرجة الإعلام. لكن أنصاره يدارون خيبته واكتئابه بتبريرات جاهزة ومعلبة، فصحيفة حرييت المقرّبة منه تبرر غيابه بشعوره بالإرهاق وليس رفضا للهزيمة في الانتخابات. فهو بحاجة للاسترخاء بعد 102 لقاء جماهيريا في 59 مدينة سيطرت عليها حملات التخوين والسباب والشتائم لمعارضيه وجاءت نتائجها بعكس ما يشتهي. لذا فالصحيفة تعتبر غيابه أشبه بمخيم لوضع استراتيجية المرحلة المقبلة. ولربما يكون قانون الوصاية هو أبرز بنود هذه الاستراتيجية الجديدة، حيث تتوارد الأنباء عن تجهيز أردوغان لقانون لطرد مرشحي المعارضة الفائزين من رئاسة البلديات، وتعيين أوصياء من حزبه بدلا منهم. وكما سار حزب العدالة والتنمية خلال فترة حكمه على طريق الالتفاف على الدستور والقوانين مرتديا قناع الديمقراطية المزيّف، فإن يلدريم هو الآخر، حاول مخالفة القوانين بترشحه للانتخابات، رغم رئاسته للبرلمان في عملية فاضحة. لكن الضغط الشعبي وعاصفة الانتقادات التي واجهت سلوكه المخالف للمادة 94 من الدستور ولقانون الانتخابات رقم 2839 أيضاً، دفعته للاستقالة من البرلمان كي ينفي عن نفسه صفة “المولع بالمنصب والكرسي”، وليلعب دور “السياسي الفاضل الذي ترك المنصب والكرسي بسهولة”. لكن كواليس حزب العدالة والتنمية تشهد اليوم خلافات حادة وتبادلا للاتهامات وسط حالة من التخبّط والاضطراب، بعد خسارة نحو 14 بلدية على رأسها أنقرة وإسطنبول وإزمير، ووسط كل هذا يسعى أردوغان إلى إرضاء المهزوم يلدريم وطمأنته بإمكانية تعيينه نائبا للرئيس بعد صعوبة عودته لرئاسة البرلمان. القارئ للتاريخ العثماني لا يشعر بالدهشة من ممارسات التزوير واستخدام الوسائل المشروعة وغير المشروعة في الانتخابات من قبل أردوغان، فهو يقلّد أسلافه العثمانيين ويسير بثقة على خطاهم. ففي 24 يوليو 1908 أعلن السلطان عبدالحميد الثاني إعادة العمل بـ”المشروطية” أي الدستور العثماني، وبموجبه تمت دعوة الناخبين إلى المشاركة في انتخابات مجلس “المبعوثان” العثماني. فشهدت الدولة العثمانية أكبر عملية تزوير انتخابية، إذ حشد حزب “الاتحاد والترقي” أعضاءه للاستحواذ على أغلب مقاعد مجلس “المبعوثان”، ووزّع مندوبين له في كل اللجان الانتخابية، ووضع على كل صندوق عضوين لمراقبته، وتمكنوا من غلق 50 لجنة انتخابية كان أغلب سكانها من مؤيدي زعماء العشائر العربية المعارضة للاتحاديين، وحدثت اشتباكات عديدة أسفرت عن قتل 75 شخصا. وفي ذات الوقت كان أعضاء حزب “الاتحاد والترقي” يتجولون في المدن والقرى ويطوفون على البيوت ويسلمون الناخبين “تذكرة” مسجلا بها بيانات الناخب، ومطبوعا على الوجه الأخر للتذكرة شعار الاتحاد والترقّي وصورة مرشحه، ويسلمون الناخبين جداول بأسماء المرشحين الواجب اختيارهم، ويرسلون هؤلاء الأهالي برفقة أحد أعضاء الحزب إلى مقرّ اللجان الانتخابية، ليتولّى بعدها مندوبوهم في اللجان مهمة إجبار الناخبين على التصويت لقوائم الاتحاديين. وفي 18 يناير 1912 أجبر الاتحاديون السلطان محمد الخامس رشاد على حلّ مجلس “المبعوثان”، وقرّرت حكومة الاتحاد والترقي إجراء الانتخابات في غضون 3 أشهر ابتداءً من تاريخ حل المجلس. ووفق قانون الانتخاب العثماني فقد كانت عملية التصويت تتم على أساس “الانتخاب المفتوح”، أي يقوم الناخب بالتصويت أمام موظفي الحكومة، ولما كان أغلب سكان السلطنة أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، فقد برّرت حكومة “الاتحاد والترقي” قيامها بعمليات التصويت الجماعي بأنها تقوم بمساعدة الناخبين على اختيار من يريدون دون تدخل منها في توجيههم. وشهد اقتراع عام 1912 انتهاكات انتخابية وقانونية جسيمة، وهو ما عرف باسم “انتخابات العصا”، لأن حزب “الاتحاد والترقي” استخدم الأساليب القهرية والقمعية المعادية للديمقراطية لتزوير نتيجة الانتخابات لصالحه. لكن هل سيتحوّل الشيطان إلى ملاك والدكتاتور إلى ديمقراطي بين ليلة وضحاها؟ وهل سيقبل أردوغان بنتائج الانتخابات بشفافية وهدوء أم أنه سيعود لسيرة القمع والتنكيل؟ المراقبون يرون إن الكلام الأولّي لأردوغان عن قبوله بنتائج الانتخابات ما هو إلا قناع سرعان ما سيسقط، فمن ضمن الاحتمالات أنه سيفرض الحراسة على بلديات المعارضة على خلفية اتهام رؤساء البلديات بالانتماء إلى الإرهاب. فقد قال خلال لقاء جماهيري قبل الانتخابات “سننتظر النتيجة النهائية للانتخابات، وبناء عليه، سنقرر ما موقفنا تجاههم”. بينما يجد الصحافي المقرّب من الحكومة عمر توران أن الحل يتمثّل في إغلاق حزب العدالة والتنمية وتأسيس حزب جديد، مضيفا في تغريدة مثيرة للجدل “هذا هو الحل الوحيد. إن العدالة والتنمية يمثّل عبئا على أردوغان ويجب عليه أن يتخلص منه”.
مشاركة :