القاهرة - أعلنت بعض المدارس الخاصة في دول عربية عدة تبني برنامج “رولر” الأميركي، وهو أشهر برنامج مدرسي لتعليم الصغار طرق التعامل مع المشاعر. وتأتي استعانة المدارس بهذا البرنامج بعد أن رصد خبراء التربية هوة كبيرة بين ما يقدمه قطاع التعليم وما يحتاجه التلاميذ والطلبة. وتختلف هذه الهوة بين دولة وأخرى، وهو اختلاف لا يرتبط أساسا بتقدم الدول وتأخرها بقدر ما يتعلق بنظرة هذه الدول لقطاع التعليم كاستثمار طويل المدى. ويمكن رصد هذه الهوة بشكل واضح في الدول العربية، التي ما زال أغلبها يتعامل مع المقررات التعليمية بعقلية سنوات الاستقلال دون أن يتم تطويرها ورفدها بمواد جديدة تواكب الثورة التي يعيشها هذا الجيل والتي تؤثر عليه على مختلف الأصعدة. من هذه المقررات مادة موجهة للطلاب لتعليمهم التعامل مع “المشاعر”. وقد يبدو الأمر غريبا في الوهلة الأولى، حيث يجادل البعض بأن هذه مهمة الطبيب النفسي، لكن برنامج “رولر” الأميركي يؤكد عكس ذلك. ورغم أن هذا البرنامج انطلق منذ سنة 2005 إلا أن اسمه بدأ يبرز على الساحة العربية، بعد أن أعلنت بعض المدارس الخاصة في دول عربية تبني هذا البرنامج. ظهر برنامج “رولر” للذكاء العاطفي للمرة الأولى عام 2005 في الولايات المتحدة، وتوسع سريعا ليشمل عشرات الآلاف من المدارس في العالم. وللبرنامج بعض الأهداف الأساسية، أبرزها: تعرُّف الشخص على مشاعره ومشاعر غيره، وفهم أسباب وعواقب العواطف، وتصنيف العواطف باستخدام مفردات دقيقة ومتنوعة، والتعبير عن المشاعر وإدارتها بطرق تساعد على التطور. ويرى باحثون أن تعلم المشاعر له فوائد كثيرة. فالتجارب السابقة في إضافة مهارات التعبير العاطفي والذكاء الوجداني للتلاميذ غيرت عقول الأطفال بشكل فعال ومميز، مقارنة بالطلاب العاديين. وتشير دراسة لجامعة نيوجيرسي للآداب والفنون إلى أن الطلاب الذين تعلموا كيفية التعامل مع ما يعتريهم من مشاعر مختلفة واكتسبوا المهارات العاطفية الصحيحة، أصبحوا متفوقين في مواد متعددة، مثل العلوم والرياضيات. ولا يتوقف اكتساب مهارات الذكاء العاطفي على التفوق الدراسي، ويمكن تعامل الطفل مع العواطف الست الأساسية، وهي: الحزن والخوف والغضب والفخر والخجل والإنهاك، أن يساهم في إضفاء المزيد من الاستقرار النفسي والتعليمي، فتنخفض حدة الخلافات وكذلك تأثير المضايقات وحالات التنمر بين الطلاب بشكل عام. يلوّح مؤيدو تعلم المشاعر في المدارس والجامعات بأن الطلاب الذين اكتسبوا مهارات وجدانية حصدوا أساليب جديدة للتعبير عن أنفسهم، واتباع طرق تفكير أكثر منطقية وترابطا. وعلى الرغم من الاتفاق العام حول أهمية تعلم سبل التعبير والتعامل مع المشاعر، لكن قضية وضع منهج تعليمي واضح ومحدد للمشاعر، تعكس سجالا كبيرا، لأن المشاعر فطرية، وبالطبع غير ملموسة ماديا، ويصبح إدراجها كمنهج دراسي مسألة معقدة بحاجة إلى دراية علمية واسعة، وتدريب يراعي الأجواء العامة في البيئة. ويذهب خبراء في علوم التربية إلى أن إضافة مناهج للتحكم في المشاعر وتوجيهها قد تؤدي إلى إلغاء شخصية الطفل الطبيعية، والتي تنمو مع تراكم الخبرات والاحتكاكات الإنسانية. تظهر المشاعر على أنها مهارات حياتية مكتسبة يصعب فهمها وتحليلها وإصلاح العوج فيها، وهي رؤية تعكسها مدارس العلاج النفسي السلوكي، مثل المدرسة الإنسانية لعالم النفس الأميركي كارل روجرز، الذي يرى أن كل إنسان وحده قادر على توجيه وإصلاح ذاته من دون تدخل خارجي. ويؤكد روجرز على أن الكثير من البشر يحتاجون إلى بصيرة من أجل التغيير، ويتطلب ذلك من ينير الطريق من الخارج دون اختراق العواطف ومحاولة تغييرها بالقوة. وهي القاعدة التي يتبناها أصحاب نظريات تدريس المشاعر، لأن المناهج الخاصة بمهارات تقييم العواطف وإدارتها توجه الطالب ولا تخلق المشاعر داخله. ويحذر خبراء من استغلال البعض لفكرة تعليم المشاعر وتوجيهها لصالح أفكار سياسية أو اقتصادية أو ثقافية معينة. وهي حالة متكررة في العالم العربي، لأن العاطفة تنشأ من تكوين الأفكار، والتي تنبع من المعتقد المجتمعي السائد. وأوضحت وفاء سعيد، أستاذة علم النفس، أن فكرة تعليم الطفل كيفية التعبير عن مشاعره مسألة مهمة وحيوية في التربية والرعاية بشكل عام، ويختلف العلماء حول وسائل تطبيقها على الصغار. وقالت لـ”العرب” موضحة “مع البدايات الأولى لنشأة الطفل وتكوين مشاعره، يخفي مشاعره وأحيانا يتجاهلها، إذا كان الأب والأم لا يشجعانه على التعبير عن العواطف بحرية، حيث يعتبران ذلك تجاوزا أو تضييعا للوقت، لكن في الحقيقة إن تعليم المشاعر يعطي معلومات قيمة عن العالم”. وترى سعيد أن حسن استخدام وسائل وأدوات التعليم، “مفتاح النجاح، وسوء التدريب يعطي نتائج عكسية”، وضربت مثلا بمواد سابقة ظهرت في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، عندما فرض مواد دراسية حول القومية العربية والتربية الوطنية، وقام بتعميمها ثم انتقلت تلك المناهج إلى العراق وسوريا والجزائر، ومع أن هدف هذه المواد هو غرس وتعليم المشاعر الوطنية والانتماء في نفوس الطلاب، لكنها لم تحقق الغاية بسبب غياب الوسائل الصحيحة واشتباك المشاعر مع الأهداف السياسية، لتتحول المناهج التعليمية الهادفة إلى مجرد حبر على ورق. وتتقاطع رؤى أخرى مع منظور التغلب على فكرة انحياز المشاعر، عبر تقديم مناهج الذكاء العاطفي، ضمن المواد الدراسية التقليدية، مثل الأدب والشعر والفلسفة والتاريخ. وتقوم بعض المناهج في الولايات المتحدة وماليزيا وألمانيا وفنلندا، على تقديم حصص دراسية يتم فيها استنباط جزء من أبيات شعرية أو مقاطع نثرية أو قصة قصيرة أو واقعة تاريخية شهيرة، وربطها بالذكاء العاطفي بسؤال الطلاب حول ما هي مشاعرهم تجاه ما رأوه أو سمعوه أو قرأوه، ثم تتم مناقشة تلك المشاعر ضمن سياق عام. وبربط تعلم المشاعر بمنهج دراسي ثابت من الممكن حماية سبل التعليم من الانحياز نحو عواطف معينة، سواء كانت إيجابية أو سلبية. وتبقى الصورة العامة في النهاية مقترنة بكون المنهج الدراسي بشكل عام منحازا ولا يمكن فصله عن الواقع الحياتي أو الإدارة السياسية التي تضع الخطوط العريضة لفلسفة الدولة. ويعوّل البعض من الخبراء في مجال التعليم على أولياء الأمور في تقديم اتزان المشاعر وتمكين الذكاء الوجداني بصورته الصحيحة، حيث يعمل الآباء على تحفيز الوعي العاطفي، بالتشجيع واستخدام اللغة العاطفية انطلاقا من الاقتناع بأن الأطفال لديهم مشاعر تحتاج إلى أن تؤخذ في الاعتبار، وعدم منع مشاعر الصغار من النمو بممارسة الانتهاك لصالح منظور فكري معيّن. ويضمن الوعي الأبوي والرعاية المدرسية خلق جيل جديد بوعي نفسي وعلمي، ويساهم في ترسيخ مفاهيم إيجابية تتجاوز حدود التحصيل الدراسي التقليدي إلى تكوين شخصية اجتماعية سوية وقابلة للتطور.
مشاركة :