ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان؟ ولكن بالأدب أيضًا، الأمر الذي يرفع الأدب إلى رتبة الحياة بكل سموها.. لكن هذا لا يمنعنا من طرح السؤال الذي تكرر كثيرًا؛ هل بقي للأدب قيمة تستحق أن تذكر؟ بمعنى آخر، أما يزال الإنسان في حاجة إلى الأدب ليستعيد توازنه؟ في زمن ليس بالبعيد كان الأدب جزءًا من يوميات الإنسان المعاصر، قراءة ومتعة ومتابعة.. في ظل الوسائط الاجتماعية تغير كل شيء.. لهذا خصص المهتمون ثقافيًا بالشأن الأدبي، وقتًا مهماً لتناول الظاهرة عن قرب.. فمسألة مثل هذه تهم جوهر الإنسان، في غاية الدقة والحدة، ما جدوى الأدب في عالم النار، والتقتيل على مستوى واسع، والقنابل النووية التي يمكنها أن تمسح الأرض من الوجود مائة مرة، ولا تبقي فيها شيئًا إلا اليباب؟، ما دور عالم الهشاشة أمام عالم الغطرسة والقوة؟ كل المساحات الممكنة سرقت فماذا بقي للأدب في النهاية؟ الإجابة بسيطة.. بقي للأدب كل شيء، ولا شيء؟ لا شيء، طبعًا إذا اتخذنا منطق القوة المادية مقياسًا وهو ليس كذلك إلا مرحليًا وإلا فإننا لا نعرف مسار الإنسان حضاريًا؟ ماذا بقي من الرومان؟ الفرس؟ الممالك الأوروبية التي هزمتها الحرب العالمية الثانية؟ كل شيء إذا اعتبرنا أن عالم الأدب أكبر من لحظة مادية طارئة.. فهو ذاكرة تعتمل في عمق الأجيال المتعاقبة وتربطها ببعض، وتسهم في خلق نموذج إنسان اليوم. في الشخصية الأوروبية الحضارية اليوم، يتخفى ماكبث لشكسبير، إني أتهم لإميل زولا وهو يدافع عن الحق المداس، زوربا كزانتزاكي في استماتته من أجل إنسانيته.. يوجد جورج أورويل في استشرافه في 1984، لعالم بيغ بروزر البغيض، الذي كان يرتسم في الأفق.. ينام هكذا تحدث زرادشت لنيتشه بكل جبروت فكره.. في ذاكرة الذين يعبرون أمامنا المطارات، وقاعات السينما، والمسارح، وفي الشوارع الواسعة، شيء من إلياذة هوميروس، وزمن مارسيل بروست الضائع، وكارمن لميريمي. لا يمكن لهذا العالم المخزّن في أعماق الإنسان ألا يترك أثرًا فيهم، ويمنح الحياة مساحات لا تحصى للحلم حتى عندما تنغلق هذه الأخيرة.. لنا أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا في العالم العربي، نحن الذين لا نقرأ كثيرًا، أو لا نقرأ إلا قليلاً بالقياس إلى الأمم الأخرى؟ لا نحتاج إلى إحصائيات كبيرة، يكفي متوسط النشر المخجل (ألف نسخة لثلاثمئة مليون نسمة) لندرك كم مازلنا بعيدين.. ماذا فعلنا نحن؟ الغد يصنع اليوم.. ماذا منحناه غير أوطان تتمزق، وموت يتربص به وبأحلامه، ورماد بلدان ظننا إلى وقت قريب، أنها لن تموت أبداً، وأنها ستقاوم.. إنسان الغد لا نصنعه اليوم، لكنهم يصنعونه لنا، مفرغاً من الداخل، سهلاً، خالياً من روابط الثقافة كقيمة إنسانية وليس كاستهلاك. نحتاج إلى الكثير من الصبر، والكثير من الثقة، لنفكر في أمر كهذا، مصائرنا معلقة به.. نعم للأدب ما يقوله، وللفنون المصاحبة له، ما تقوله، تمنحه لعالم ليس مكونًا فقط من اقتصاد، ولكن أيضًا من نصوص أدبية تعيد لنا إنسانيتنا كلما هربت منا، شِعر يذهب بنا بعيدًا نحو الأراضي البكر التي يمكن لنا أن نبني فيها أجمل البيوتات التي لا تعصف بها الرياح لأنها في عمق إنسانيتنا، وموسيقى تذكرنا أننا مازلنا قادرين على البكاء في اللحظات الأكثر هشاشة، فنحفر على الإنسان المتبقي فينا.. الأدب والإنسان متلازمان حتى النهاية، عندما ينتفي الأول يلحق به الثاني، وتلك نهاية عصر الإنسان.. كلاهما مشروط بالآخر.. ليس التخييل في النهاية إلا محاولة افتراضية لجعل الحرية فعلاً معاشًا ولو داخل نسق أدبي، وليس مجرد خطاب قد يموت دون أن يُعاش.
مشاركة :