من يقلب النظر في سياسة الولايات المتحدة على الأقل في الأشهر الأخيرة، ينتهي في نهاية المطاف إلى اللاشيء، ونقصد باللاشيء صعوبة توصيف هذه السياسة وضبط أهم توجهاتها. والمشكلة أن هذا الغموض المقصود، يخفي سلوكا سياسيا مترددا وغير واضح وصارم في قضايا حساسة جدا. أما إذا أمعنا النظر في سياسة الولايات المتحدة واستنطقنا ما يبدو غامضا فيها، فإن القراءة الواقعية وغير المنمقة في استنتاجاتها، تقول إن واشنطن تلعب على أكثر من حبل بل على حبال كثيرة في الوقت نفسه. وكي لا يكون كلامنا عاما، فإن الأمثلة التي تدعم ما ذهبنا إليه من تلاعب في سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط قلب الصراعات الحقيقية المحددة لواقع موازين القوى السياسية، نشير إلى قضية تنظيم داعش وكيف أسهم تردد الولايات المتحدة و«برودها» في تنامي أذى التنظيم وانتشاره، فكان في البداية في سوريا والعراق ثم أصبح في منطقة المغرب العربي وتحديدا ليبيا. وقد يصح الاستنتاج أيضا أن مماطلة البيت الأبيض في شأن ما عرفته ليبيا من انفلات وفوضى والاقتصار على دور المراقب الغاضب من حادثة الهجوم على السفارة الأميركية في ليبيا، مثل هذا التماطل يندرج أيضا فيما وصفناه بالسياسة المترددة والمماطلة وكأنها – أي إدارة أوباما - تنتظر بلوغ أسوأ نقطة دمار وتخريب وفوضى وساعتها قد تتذكر أنها قوة رئيسية في العالم ولها واجبات تجاه الدول التي تعرف بؤر توتر عالية العنف والدموية. والذي يزيد في صعوبة فهم الإيقاع السياسي للبيت الأبيض أن حتى تلك الحرب التي فرضها على العالم وفق رؤيته وأجندته، أي الحرب على الإرهاب، فإنها أصبحت متراخية في الإقبال عليها رغم أن تنظيم المسمى «داعش» أخطر ألف مرة من كل التنظيمات الإرهابية الأخرى، التي حاربتها الولايات المتحدة وجرت دولا كثيرة وراءها للانخراط طوعا وإجباريا في حربها. كما أثار استخدام الولايات المتحدة للفيتو في يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما فشل مجلس الأمن الدولي، في تمرير مشروع قرار فلسطيني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال عامين، أثار مواقف أجمع أغلبها على انحياز مفضوح من واشنطن لصالح إسرائيل. وهو ما يؤكد غياب رؤية منصفة لإيجاد حل. لنأت الآن إلى القضية التي كشفت عن افتقار سياسة واشنطن إلى المنطق والعمل وفق خطط توضع للمدى البعيد. ونقصد طبعا التغير النوعي في الموقف من الملف الإيراني وتفضيل اتباع سياسة ناعمة مقنعة قليلة الكلام كثيرة الرسائل المحبطة لدول المنطقة التي تعي جيدا مآرب إيران القصيرة المدى والبعيدة أيضا. وهو تغير من غير الممكن أن يشمل إيران فقط بل يطال بالضرورة المحور، الذي تمثله ويمثلها في منطقة الشرق الأوسط. وهنا تكمن خطورة لعب الولايات المتحدة على أكثر من حبل وكذلك عدم وضوحها أو لنقل محاولة اعتماد سياسة التعامل مع الكل كأرقام غير متفاوتة، مما يعني أن الولايات المتحدة البراغماتية والواقعية، ترسم منعرجات سياستها الخارجية في ضوء موازين القوى في أرض الواقع وليس في ضوء مواقف مبدئية معلنة وسبق لها التعبير عن التزامها بها. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن للولايات المتحدة فعلا أن تتراجع عن مواقفها وتغض الطرف عن شروط كانت في الأمس القريب شروطا غير قابلة للنقاش والتفاوض؟ ثم إذا كان ذلك واردا لماذا تجاهر واشنطن بما لا تستطيع الوفاء به؟ أليست معنية كدولة قوية في العالم بصورتها وبالتزاماتها الأخلاقية مع الأطراف التي شجعتها على التحرك والثورة والمعارضة؟ وكيف يمكن أن تبرر تراجعها، إن تأكد ذلك، لمن وثق فيها من الدول وتحالف معها وراهن على تصلبها؟ أسئلة كثيرة تبدو لنا جديرة بالطرح، وأغلب الظن أن البيت الأبيض قد بدأت تلوح أمامه وهو ما تدعمه زيارات وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى دول عدة لتبرير ما يجب تبريره وتقديم تطمينات لم تلق التلقي الإيجابي وجوبهت بحذر شديد! وبقدر ما كانت سياسة الولايات المتحدة في خصوص الملف الإيراني واضحة المواقف والقرارات والأهداف، بقدر ما أصبحت مختلفة (هذا أقل ما يمكن أن توصف به) وتنبئ بتحول نوعي مفتوح على السيناريوهات المخيفة. وفي الحقيقة، فإن هذا التغير الذي تقرره واشنطن دون تشريك أصدقائها وحلفائها يجعلها تفقد مصداقيتها وباعثة للشعور بالخيبة. تمر اليوم المنطقة بتغيرات عميقة وذلك دون مقدمات. والمشكلة أن الولايات المتحدة غير مدركة لعواقب اللعب على حبال عدة في ملفات ذات تداعيات ليست فقط إقليمية بل وعالمية أيضا.
مشاركة :