فاروق صبري لـ"العرب": الفن منصة التمرد ومعاكسة السائد المجتمعي

  • 4/14/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

العراقي فاروق صبري واحد من فرسان التحديث في ميدان المسرح العربي كتابة وتمثيلا وإخراجا ونقدا، اختارته المنافي صديقا منذ أربعين عاما، لكن إقامته في نيوزيلندا لم تمنعه من الحضور الدائم في قلب المشهد العربي بأعماله المسرحية اللافتة مثل “الوردة الحمراء” و”أمراء الجحيم” و”أسئلة الجلاد والضحية”، فضلا عن نظريته حول “المونودراما التعاقبية”، ومشاركاته المتنوعة في المؤتمرات والمهرجانات المسرحية بالشارقة وأربيل وبغداد والعواصم العربية. وسط ما يحفل به المسرح العراقي المعاصر، والعربي عموما، من تطوير أدائي وتخييلي بلغ حد الخلخلة النوعية، بالتوازي مع تحركات المسرح الحديث بدول العالم الغربي، يبرز اسم فاروق صبري كمحرّك من محركات التفوّق والتقدم نحو المستقبل والتحرر من القوالب النمطية والأطر الضيّقة، سعيا إلى ابتداع لغة جديدة للمسرح وأنساق غير مطروقة. التقت “العرب” المسرحي العراقي، الذي استعرض في هذا الحوار رؤاه الطليعية حول أبوالفنون، والمشهد المسرحي العربي الراهن، وعلاقة الإبداع بالحرية وبالأوضاع العامة في المنطقة العربية، وغيرها من القضايا الفنية المتعلقة. منذ تخرجه في معهد الفنون الجميلة في بغداد (قسم المسرح والسينما) عام 1974، والفنان فاروق صبري شغوف بالتجديد والمغايرة، فالفن برأيه هو التمرّد والدهشة والصدمة ومعاكسة السائد المجتمعي لإحداث تغيير مأمول. إذا كان فن المسرح ينصب نفسه دائمًا ملكًا متوجًا بين الفنون، في العالم العربي، بوصفه الأكثر جرأة وقدرة على طرق أبواب السياسة والإصلاح الاجتماعي متحليّا بالإقدام والاقتحام ومستغلًا المتاح من هامش الحرية ومحطمًا أسوار الرقابة والمنع، فإن فاروق صبري يرى أن سر ذلك التفوق يعود إلى أن المسرح هو "توأم الحياة" على مدار خمسة وأربعين عاما من العمل في داخل العراق وخارجه، لم يتخلّ صبري عن نزعته التجريبية، في أعماله الفنية، وأطروحاته التنظيرية والتأطيرية، خصوصا حول “المونودراما التعاقبية”، المنسوبة إليه كثيمة مسرحية جديدة. وشارك كممثل في أعمال بارزة، منها “الغريب” لألبير كامو و”إسكوريال” لميشيل دوجلدرود و”أغنية على الممر” لعلي سالم، وأسهم بعد ارتحاله عن العراق في عام 1979 في تأسيس العديد من الفرق المسرحية، منها “بابل” العراقية و”أوروك” برئاسة الشاعر مظفر النواب. وقدّم مشاركات في المسرح القومي السوري، وامتد نشاطه إلى مدينة أوكلاند النيوزيلندية التي يقيم فيها حاليا، لينطلق منها بأعماله إلى هولندا والدنمارك ودول أوروبية عدة، ثم إلى أربيل بمسرحية “الوردة الحمراء” من تأليفه وإخراجه، ومنها إلى البصرة وبغداد والشارقة والعديد من المدن والعواصم العربية، ليظل اسمه حاضرا وفاعلا في حركة المسرح العربي الحديث. حصاد الإقصاء حول تأثّر تجربته المسرحية كممثل ومؤلف ومخرج وناقد بمحطات المنفى، وما إذا كان هذا المنفى اغترابا اختياريّا أم اضطراريّا، يشير فاروق صبري في حديثه لـ”العرب” إلى أنه أجبر على مغادرة الوطن منذ أربعين عاما، ومنذ هذا الإقصاء إلى يومنا هذا، وهو يعيش المنافي التي لم يختر أبدا محطاتها. يرى صبري أن هذه المنافي، على مساوئها، منحته فرصًا للتأمل والحرية، وهذه الأخيرة يفتقدها المسرحيون في بعض البلدان العربية، ويقول “حاولتُ خلال العروض التي قدمتها في العراق وخارجه إبراز صخب الحرية العذب الموجود في أعماقي وأنا أشتغل عروضي المسرحية، ففيها تبنيت أن لا مقدس إلا خلق المبتكر والصادم”. من واقع مشاهداته لعروض مسرحية في العراق وتونس والإمارات ومصر وغيرها، لمس صبري ظهور مسرحيين كسروا مفاتيح التابوهات الحديدية في السياسة والقوالب السائدة في المسرح، لكن مع ذلك “هناك من يشهر سيف الممنوعات والمحرّمات، وهؤلاء ليسوا فقط من بؤر السياسة، بل إنهم كذلك يسمّون بالمسرحيين للأسف، بخاصة في العراق”. حول مشاهداته التي تبلور تأثر المسرح العربي بموجة التحديث العالمية في تشكيل الفضاء المسرحي، من أجل خوض رهانات التجديد وإشكالاته والخروج من المسرح التقليدي، يرى فاروق صبري أن العالم أصبح بحكم التطور العلمي والتكنولوجي المتواصل بقعة جغرافية متقاربة جدّا، وأصبح التنقل فيها سهلا للغاية، ليس عبر مواصلات برية وجوية وبحرية، بل عبر شاشة صغيرة اسمها جهاز الكمبيوتر. لذلك، فالمسرحيون الحالمون المجتهدون، وهم يحضرون مهرجانات عالمية وعربية ويشاهدون عروضها ويشاركون في ندواتها وورشها ويلتقون بشخصياتها الفكرية والمسرحية، يوسّعون حلمهم ويغذّون اجتهادهم بأفكار جديدة ورؤى مختلفة يتحتم عليهم الاستفادة منها كمعطيات جمالية وفكرية، من دون نقلها بشكل ميكانيكي استنساخي أو حل بصري شكلاني يقع في فخه المشوّق البعض من الفنانين المسرحيين العرب والعراقيين. يصف فاروق صبري في حواره مع “العرب” هذا التوجه الشكلاني بأنه سمة بعض العروض المسرحية العربية الضعيفة للأسف، إذ تقوم على الهوس في استخدام الأدخنة المزركشة والداتا شو والبارتشينات المتداخلة والمتحركة في العديد من الاتجاهات والهندسيات الضوئية الملونة والمتنوعة في أشكالها ومصادرها، وهذا كله ربما يمنح المتلقي متعة بصرية لكنها مؤقتة وغير مؤثرة، لأنها تهمّش أو تغيّب مقولات العرض الفكرية وبنية شخصياته وسياقاته الدرامية. تبدو تجربة صبري، على حداثيتها، غير منقطعة الصلة بالجذور، فهي منفتحة على تجارب الروّاد والطليعيين في المسرح العراقي والعربي، فهو منذ سبعينات القرن الماضي، يعايش جيله وما قبله وبعده، أن هناك تداخلا وتفاعلا وتواصلا بين المسرحيين العراقيين، فهم إن اختلف زمنهم، لا يختلفون في جعل المسرح فضاء بحث وكشف وابتكار. ويشير إلى المسرحي العراقي المخضرم جواد الأسدي، واصفا إياه بأنه الحصان المتدافع والمتسابق مع رياح الأزمنة، حيث لا يهدأ صهيله الإبداعي، وعبر قرابة نصف قرن بقي الأسدي متجدّدا وهو ينحت رؤيته الجمالية والفكرية على أرض المسرح “جنته”، فمنذ “العالم على راحة اليد” إلى “تقاسيم على الحياة”، ظهر بياض الشيب على رأس الأسدي، لكن منجزه المسرحي لم يهرم ويؤطر في زمن محدد ما، ومن هنا يمكن القول إن عروض الأسدي المسرحية لا تدخل في فهرست المجايلة، وهذا معنى الامتداد والتواصل بين الأجيال. آفاق التطوير يتجه المسرح العراقي المعاصر، والعربي عموما، نحو آفاق جديدة وفضاءات متسعة، بانتهاجه انزياحات جمالية وتغيّرات نوعية في الرؤى والمعالجات والأداء، وتلعب المهرجانات المسرحية، خصوصا تلك التي تنعقد بشكل دوري في الشارقة، دورا في إثراء حركة المسرح بالعروض الحية والنقاشات المثمرة. عن هذه الفعاليات الزاخمة في تعزيز وإثراء المسرح العربي، يرى فاروق صبري أن الشارقة تسعى بوضوح واقتدار إلى أن تصبح قلب الفعل المسرحي النابع من جغرافية العراق، ومن دول أخرى مثل تونس والمغرب والجزائر، وذلك عبر تفعيل المسرح بدءا من المدارس الابتدائية صعودا إلى المعاهد والجامعات. وتمتد إلى بلدان أخرى لتلتقي وتتلاقح مع مهرجانات مسرحية هناك، وتتوسع من خلال هذا التلاقي والتلاقح الفضاءات الفكرية والعملية، ويقول فاروق صبري “أتمنى من سلطان مسرح الشارقة (الشيخ سلطان القاسمي) أن يجعلها فضاءات متحررة من التابوهات المعروفة، والممنوعات المؤدلجة، كي تنطلق المنجزات المسرحية بأكثر جدية ومعرفية، في سياق تأسيس وترسيخ تطورات نوعية في الأفكار والمعالجات والأداء الفني”. يُنجز هذا الأمر الحيوي بعقل معرفي متنوع ومتعانق مع خبرة فنية وحياتية، وإن ظهرت ملامحه في بعض عروض مسرحية حاول كتّابها ومخرجوها وسيناغرافيوها الخروج من المتكرر البصري، النصي المسرحي، إلى حيث المبتكر الفرجوي، الرؤيوي. يشير إلى المسرحي العراقي المخضرم جواد الأسدي، واصفا إياه بأنه الحصان المتدافع والمتسابق مع رياح الأزمنة، حيث لا يهدأ صهيله الإبداعي، وعبر قرابة نصف قرن بقي الأسدي متجدّدا وهو ينحت رؤيته الجمالية والفكرية على أرض المسرح ولذلك “تفتحت شهية المغامرة التخييليّة في صناعة فضاءات الدهشة والصدمة جماليّا وفكريّا، لكنها -أي المغامرة- ظلت في ظلها المتعثر، وتبعثرت خطواتها وبقيت على هامش الخلخلة النوعية، التي لم تستطع تحقيقها بعض التجارب المسرحية المتعثرة”. في إطار انفتاح المسرح العربي الحديث على ثيمات المونودراما والديودراما وغيرهما من الأشكال التي يتم تخصيص مهرجانات كاملة لها، وفي ضوء انحياز فاروق صبري للحداثة والتجريب، تدفق مشروعه “المونودراما التعاقبية” كنظرية وتطبيق، ليعكس التثوير الفني للسينوغرافيا والمقترحات البصرية المغايرة والأداء والتشخيص والصياغات الإخراجية والنصية. ويلفت فاروق صبري إلى رغبته في الخروج من جلابيب مبدعين من أمثال قاسم محمد وعادل كاظم وإبراهيم جلال وعوني كرومي وجليل القيسي وصلاح القصب ومحيي الدين زنكنة وغيرهم، ليلبس جلبابا خاصّا به يضعه أمام الآخرين كمحطة من محطات تجربته، ولا يستبعد أيضا تغييره وفق قراءاته ومعايشته للحياة ومشاهداته للتجارب المسرحية. ويقول في حديثه لـ”العرب”، “النص الجيد هو ما يحفزه للبحث والكشف والجديد والمدهش، حيث يميل عادة إلى معاكسة السائد، أي استخدام حالة ما، واقعة ما، شخصية ما، أشياء ما، بعكس المعروف عنها، أي إلغاء سائدية دلالاتها المعروفة، وقراءتها بدلالات ومفاهيم وإشارات جديدة مبتكرة غير مطروقة وربما متعارضة مع سائد الوعي الجماعي”. ويواصل كلامه “في تجربتي مع النص المونودرامي التعاقبي (أسئلة الجلاد والضحية)، للكاتب صباح الأنباري في عرض تورنتو، وفي العرض ذاته بعنوان (منيكانات) في بغداد، استخدمت أراجيح، وجعلتها أماكن يعذّب الجلاد فيها ضحاياه، فهنا قلبت معنى حضور الأرجوحة من مكان للحب والطفولة إلى بؤرة لوحشية الجلادين الذين حوّلوا فسحات الجمال إلى زنازين الموت، ولم أكتف بقراءتي هذه للأرجوحة، إذ بحثت عنها تاريخيّا حتى وصلت إلى إمبراطور روماني نصب في إحدى غابات بلده العشرات من الأراجيح، وعلّق عليها الفلاحين الذين تمردوا على حكمه”. يصف فاروق صبري مشروعه “المونودراما التعاقبية” بأنه نص تنظيري للحقيقة، وقد وضع عنوانه الكاتب المسرحي صباح الأنباري الذي كتب ثلاثة نصوص مونودرامية وفقا للمشروع الذي بدأ في كتابته عام 2011، وفي السنوات اللاحقة نشر المشروع الذي نفذه عام 2016 كعرض مسرحي عبر نص الأنباري “أسئلة الجلاد والضحية” في مدينة تورنتو بكندا، ثم بعنوان “منيكانات” في بغداد عام 2017، وهناك محاولة ثالثة قادمة، لكن ستكون مونودراما تعاقبية ثلاثية، عبر نص “حواء” للكاتب والمخرج التونسي نوفل ريّان. هذا المشروع هو محاولة لتغيير البنية الكتابية والسينوغرافية للعرض المسرحي المونودرامي، أي مغادرة السائد المونودرامي المعروف، المعتمد على السرد من قبل ممثل يروي الماضي وينحصر فيه، ويستحضر شخصياته ويجسدها دون التوقف عند حاضرها، وصولًا إلى استحضار المونودراما بأبعادها الثلاثية: الماضي والحاضر والمستقبل. هكذا، يتم تغيير الصيغة الواحدانية للسرد المونودرامي، فيجري سرد الحكاية نفسها من قبل شخصيتين أو أكثر بطريقة منفصلة ومتعاقبة ولغة مختلفة ومتعارضة، مما يجعل المتلقي في حالة استنفار لوعيه، وتثار تساؤلات عديدة لديه حول ما يشاهد، حتى بعد مغادرته مكان العرض. إذا كان فن المسرح ينصب نفسه دائمًا ملكًا متوجًا بين الفنون، في العالم العربي، بوصفه الأكثر جرأة وقدرة على طرق أبواب السياسة والإصلاح الاجتماعي متحليّا بالإقدام والاقتحام ومستغلًا المتاح من هامش الحرية ومحطمًا أسوار الرقابة والمنع، فإن فاروق صبري يرى أن سر ذلك التفوق يعود إلى أن المسرح هو “توأم الحياة”. ويؤكد أن المسرح لا يُحَدد في إطار تعريف معين، فهو شامل ومتنوّع ومتحرك ونابض مثل حياتنا، ففي طقوسه تتجلى الموسيقى والرقص والجسد، وتصدح الأغنية والكلمة في حالة عناق مع ألوان الأضواء والديكور، فالمسرح فضاء للبوح وكشف للمستور وطرح للتساؤلات، وهذا الأمر يستوجب حضور نص مثقف ومخرج مثقف وفريق للعرض يمتلكون الثقافة المتنوعة. ويختتم صبري حديثه لـ”العرب” بقوله “من خلال فن المسرح وحده، يصير بالإمكان النفاذ من قهر الاستبداد إلى حيث المتاح من الحرية، والتواصل مع صيرورة حياة الناس، بإشكالاتها واختناقاتها وأحلامها”.

مشاركة :