رحل عن عالمنا في الثالث من أبريل الجاري المخرج الموريتاني محمد هوندو عبيد الشهير بـ”ميد هوندو” الذي وصف أيضا باعتباره “والد السينما الأفريقية”. توفي ميد هوندو عن 82 عاما في هدوء بالعاصمة الفرنسية التي قضى الشطر الأكبر من حياته فيها حيث عمل في مهن شتى قبل أن يدخل عالم السينما. “ميد هوندو” كما كان يفضل أن يوقع أفلامه، هو المخرج الأفريقي الوحيد الراديكالي الثائر الذي حافظ على أفكاره وعلى استقامته الأيديولوجية، وحفر لنفسه أيضا أسلوبا خاصا بديعا يتميز بالرونق والجمال. فاهتمامه الفكري لا ينفصل عن اهتمامه الجمالي. وقد قابلته عندما جاء يعرض فيلمه “ساراوونيا” في مهرجان لندن السينمائي عام 1986، وكان يتحدث العربية بطلاقة، إضافة إلى الإنكليزية والفرنسية بالطبع. وفي المقابلة التي أجريتها معه ونشرت في إحدى المجلات الإنكليزية وقتها، قال لي إنه يعتبر السينما المصرية هي السينما الأم في القارة الأفريقية، وأبدى رغبته في أن تفتح مصر أستديوهاتها ومعاملها السينمائية أمام السينمائيين الأفارقة، وأن يتم إنتاج أفلام مشتركة. البدايات ينتمي هندو (1936 – 2019) إلى حركة السينما الأفريقية الجديدة ما بعد الكولونيالية التي ظهرت في الستينات من القرن الماضي، مع عثمان سمبان وصافي فاي من السنغال، وسليمان سيسي وشيخ عمر سيسوكو من مالي، وإدريسا أودراغو من بوركينا فاسو. ولد ميد هوندو، واسمه الأصلي عبيد محمد هوندو ميدون، عام 1936 في نواكشوط، وتلقى تعليمه الأولي بالرباط، ثم هاجر إلى فرنسا وعمره 25 عاما، حيث تنقل بين مهن عديدة. فقد عمل حمالا وطاهيا وساقيا ثم بدأ العمل بالتمثيل في إحدى الفرق المسرحية الصغيرة التي أسسها أبناء جزر المارتنيك. وكانت الفرقة متخصصة في تقديم الأعمال المسرحية لمؤلفين أفريقيين. بعد هذا عمل هوندو كممثل يقوم بأداء الأدوار الصغيرة في الأفلام، وظهر كممثل ثانوي في أفلام لغودار وكوستا غافراس وجون هيستون، ثم تحول إلى الإخراج فقدم فيلمين قصيرين هما «أغنية للجندول» و«جيراني». وفي عام 1969 بدأ هوندو إخراج فيلمه الروائي الطويل الأول «أوه أيتها الشمس» الذي أنتجه بمساعدة عدد من أصدقائه واعتمادا على المكافآت التي كان يتقاضاها عن التمثيل. في هذا الفيلم يصور هوندو الإحباطات التي يعيشها مهاجر موريتاني في باريس تحت وطأة العنصرية الفرنسية والتهميش والاستبعاد، إلى أن يصل إلى مرحلة الجنون المطلق. ويتعرض الفيلم أيضا لموضوع الاضطهاد الطبقي الذي يقع على عاتق العمال الملونين في فرنسا. في الثمانينات أعلنت السينما الافريقية التمرد على صورتها القديمة التي كرسها النقاد الفرنسيون باعتبارها سينما الفولكور والفقر، وأكمل ميد هوندو أهم وأفضل أفلامه وأكثرها كمالا واكتمالا وهو فيلم "ساراوونيا" الذي حصل على الجائزة الذهبية في مهرجان موسكو السينمائي عام 1987 أما فيلمه الثاني «عمال عبيد ـ هؤلاء العرب جيرانكم» (1973)، ففيه تبرز محاولة هوندو للبحث عن أسلوب سينمائي جديد مستمد من الثقافة الأفريقية. ويستخدم هندو الأسلوب التعليمي الذي يمزج بين الواقع والأرقام والإحصائيات والمعلومات التسجيلية. وقد حصل هذا الفيلم على جائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج السينمائي (1974) في عصره الذهبي عندما كان قبلة للسينما الأفريقية والعربية الجديدة. وفي ما بعد، طور هوندو أسلوبه هذا في فيلم «ويست إنديز» (1980) الذي كان بمثابة باليه أفريقي، حيث يستخدم الرقص والموسيقى والأغاني مع التعليقات الصوتية والرسوم المتحركة وكتابة العناوين على الشاشة وإعادة تمثيل اللقطة، داخل ديكور مصنوع لسفينة مركبة بالأستديو على ديكور مصنع قديم. وتتكون السفينة من ثلاثة طوابق: يضم الطابق الأعلى المستعمرين الفرنسيين، ويضم الطابق الأوسط أعوان الاستعمار من الأفارقة وتجار العبيد البيض، وبالطابق الأسفل العبيد الأفريقيون. ويروي الفيلم قصة العبودية خلال القرون الثلاثة الماضية من خلال بناء جدلي يبرز المتناقضات، وإيقاع خاص مستمد من الإيقاعات الأفريقية التقليدية. باليه أفريقي يقوم الفيلم على مسرحية “العبيد” للكاتب المارتنيكي دانييل بوكمان، التي سبق أن أخرجها هوندو للمسرح. وقد اعتبر أكثر الأفلام الأفريقية طموحا وأول فيلم موسيقي أفريقي، وقد شيدت له ديكورات وعمل فيه عدد كبير من الممثلين الثانويين والراقصين، وتكلف إنتاجه مليون و300 ألف دولار، وهي ميزانية ضخمة بمقاييس عصره. وقد جاءت بالتعاون بين الحكومة الموريتانية، وهيئة الإذاعة والتلفزيون الجزائرية ومساهمات من السنغال والكاميرون وساحل العاج كما صرح ميد هوندو في المؤتمر الصحافي لمناقشة فيلمه في مهرجان قرطاج حيث شاهدت الفيلم للمرة الأولى. أي أنه إنتاج أفريقي مئة في المئة. في الثمانينات أعلنت السينما الأفريقية التمرد على صورتها القديمة التي كرسها النقاد الفرنسيون باعتبارها سينما الفولكور والفقر، وأكمل ميد هوندو أهم وأفضل أفلامه وأكثرها كمالا واكتمالا من وجهة نظر كاتب هذا المقال وهو فيلم «ساراوونيا» الذي حصل على الجائزة الذهبية في مهرجان موسكو السينمائي عام 1987. قضى هوندو سبع سنوات في إعداد وتصوير هذا الفيلم مدفوعا بطموحه لتحقيق عمل ملحمي كبير على غرار أفلام كيروساوا، وفيه يتجاوز كل ما حققه في أفلامه السابقة. إنه يبدو أقل اهتماما بالتجريب الشكلي وأكثر امتلاكا لعناصر الأسلوب مع التمكن التام من قيادة الممثلين وإدارة التصوير مستعينا بالمئات من الممثلين الثانويين. ويصوغ هوندو أحداث فيلمه في خط قصصي أكثر سلاسة وإن كان يخضعه ببراعة لأسلوبه الجدلي مع الاهتمام في نفس الوقت بكافة عناصر ومكونات الصورة. يتناول الفيلم قصة الغزو الأوروبي الاستعماري للقارة الأفريقية في أواخر القرن التاسع عشر، مركزا على قصة صمود «ساراوونيا» ملكة قبائل الأزناس في غرب أفريقيا التي قاومت ببسالة مع جيشها، الغزاة الفرنسيين وانتصرت عليهم، وتحولت قصة صمودها في ما بعد إلى أسطورة لا تزال قائمة حتى اليوم. يبدأ الفيلم بمشهد هائل مصور بكاميرا تتحرك «ترافلنغ» طويلة إلى الأمام، تتابع صفوف الجنود الافارقة في الجيش الاستعماري الفرنسي خلال تقدمهم في الصحراء. والمشهد هو مشهد نزول العناوين، ولكنه مصور بجمالية شديدة حيث نرى الرمال تتطاير بفعل الريح على جانبي الطريق في حركة ناعمة، وتضرب عليها أشعة الشمس فتتكون انعكاسات ذهبية رائعة تمتزج مع اللونين الأحمر القاني والأصفر. وفي نهاية المشهد، تبتعد الكاميرا لتتخذ اتجاها آخر غير اتجاه الجنود الذين يتقدمهم بضعة ضباط فرنسيين يمتطون صهوات الجياد. والأغنية المصاحبة لهذه اللقطات التي يرددها الجنود، وتتكرر مقاطع منها عبر أجزاء الفيلم، تحمل كلماتها معنى سياسيا، كما تعكس سخرية قاسية: “فرنسا جميلة.. نحن أطفال فرنسا.. إنها أمنا وأبونا. تعيش فرنسا الجميلة.. إننا سعداء بفرنسا. التي تعطينا المعكرونة والبطاطس“! المغزى السياسي واضح، وهو أن المستعمرين الفرنسيين قليلي العدد كانوا يعتمدون على بضعة آلاف من الأفارقة في غزو القارة الأفريقية، وبذلك جعلوا الأفريقي جلادا لأبناء قارته. الإغراء والمقاومة يظهر ملك قبائل الأزناس يكلف أحد أتباعه من حكماء المملكة، بتعليم ابنته «ساراوونيا» فنون الحرب والقتال والسحر والعلاج حسب الموروث الأفريقي، وبعد سنوات نرى ساراوونيا وهي تحتفل مع شعبها بانتصارها على جيش مملكة سوكوتو المجاورة، التي قام ملكها بغزو مملكة ساراوونيا بحجة اخضاعها للإسلام بالقوة. وإلى الجبهة الأخرى، لنرى لقطات مذهلة للغزاة الاستعماريين وهم ينتشرون في غرب أفريقيا، مستعينين بجنود مرتزقة أتوا بهم من جنوب السودان بعد إغرائهم باقتسام الغنائم والنساء زوجات رجال القبائل المهزومين. تتحرك الكاميرا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لنرى الأفريقيين وهم يعملون في خدمة المستعمرين. البعض يذبح الذبائح ويقوم بطهي الطعام، والبعض الآخر يطارد النساء. والضباط الفرنسيون يتناولون الطعام ويثرثرون معبرين عن احتقارهم للأفريقيين. يستخدم هوندو الحركة الطويلة للكاميرا بدلا من القطع من لقطة إلى أخرى، فيحول اللقطة إلى مشهد كامل مكون من لقطات متجاورة يجمعها المكان والزمان. ففي المشهد ثلاثة عناصر في وقت واحد: الضحايا مع العبيد والنساء، العملاء الأفريقيون المتعاونون مع الفرنسيين، وأخيرا المستعمرون البيض، كما يستخدم الأسلوب التعليمي الذي اشتهر به، كأن يقطع مثلا، على خارطة أفريقيا بينما تشير الأسهم الحمراء إلى خطوط الغزو الأوروبي، ثم فجأة تغمر الخارطة بالدم الأحمر وتتحول إلى ما يشبه القلب المنفطر. ويربط هوندو أحداث فيلمه باستخدام أسلوب التعليق أو الراوي الذي يعلق على الأحداث من خارج الصورة ويمثل وجهة نظر المخرج نفسه. فهوندو يرغب في أن يجعل فيلمه بمثابة إعادة قراءة للتاريخ، ويدعو جمهوره إلى تأمل الماضي بهدف استلهام دروسه. وفي الثلث الأخير من الفيلم، يصبح التعليق على الأحداث بصوت قائد الجيش الفرنسي الكولونيل فوليه الذي يصف حالة التخبط والانهيار التي وصل إليها جيشه مع بروز التناقضات في داخله، وهكذا ترتبط جدلية الصورة بجدلية الصوت. دور المرأة الأفريقية يرتكز الفيلم على محاور عدة في بنائه الدرامي، تبرز دور المرأة في التاريخ الأفريقي ويصور نمو الوعي لدى النساء اللاتي يتخذهن الضباط الفرنسيون أدوات للهو والتسلية والمتعة، حتى يصلن إلى ضرورة إرسال إحداهن لتحذير ساراوونيا من الغزو المنتظر. وفي نهاية الفيلم، تقوم امرأة منهن، بتوجيه الضربة الأولى فتطعن الضابط الفرنسي بالسكين، وبذلك تفتح الطريق أمام تمرد الجنود الأفارقة الذين يطلقون النار على باقي الضباط، ويقتلون القائد الطاغية «فوليه» الذي يصل به جنونه وشبقه للسلطة، إلى درجة رفض أوامر قيادته ورغبته الخاصة في إقامة إمبراطورية مستقلة في أفريقيا الغربية. من جهة أخرى تبرز التناقضات داخل المعسكر الأفريقي. هناك أولا الجنود الأفريقيون الذين يخضعون لإغراءات المستعمر ويشاركون في قتل إخوانهم. وهناك التناقضات داخل مملكة «سوكوتو» التي يرغب ملكها في مساعدة الفرنسيين، انتقاما من ساراوونيا التي سبق أن هزمت جيشه، ويستر رغبته في الانتقام بالدوافع الدينية، وينتهي إلى القتل على أيدي الفرنسيين الذين لا يثقون فيه أصلا. أما ابنه فهو يعارضه ويتبنى مع مجموعة من أنصاره ضرورة دعم ساراوونيا وشعبها، ويذهب للالتحاق بصفوف جيشها في نفس الوقت الذي يعود فيه المحارب الشجاع «باكا» بعد أن شعر بالتهديد القادم. هندو ينتمي إلى حركة السينما الأفريقية الجديدة ما بعد الكولونيالية التي ظهرت في الستينات من القرن الماضي، مع عثمان سمبان وصافي فاي من السنغال، وسليمان سيسي وشيخ عمر سيسوكو من مالي في أعظم مشاهد الفيلم، تستعد ساراوونيا مع رجالها للدفاع عن قصرها المقام على شكل قلعة أفريقية قديمة، ومع اقتراب الفرنسيين وعملائهم، ثم بدء إطلاق قذائف المدفعية باتجاه القصر، تنهار بعض الجدران، ويبدأ الانسحاب المنظم لرجال ساراوونيا من القصر إلى الغابة المجاورة. وعندما يدخل الغزاة، يجدون القلعة خالية تماما، فيجن جنونهم. وفي الغابة يتصدى جيش ساراوونيا للغزاة، ويهزمون الفرنسيين هزيمة منكرة. ويستخدم هوندو زوايا التصوير المنخفضة لتصوير ساراوونيا وسط جنودها، وهي زوايا تبرز العظمة والقوة والهيبة، ويستخدم التناقض اللوني بين ملابس جيش الغزاة من الجنود الأفارقة المرتزقة الذين يرتدون الطرابيش الحمراء والسترات القرمزية والسراويل الزرقاء، بينما يرتدي رجال جيش ساراوونيا السراويل الصفراء التي تكشف أسفل الساقين مع بقاء صدروهم عارية. وفي الفيلم نوعان من الموسيقى: الموسيقى التقليدية الأفريقية وإيقاعاتها الخاصة، وهو ما يبرز في الأغنية التي ينشدها الجندي السوداني مرددا فيها كلمات الحسرة والألم على البعد عن الوطن والعمل لحساب الأجنبي، والموسيقى الأفريقية الموزعة توزيعا حديثا والتي تعلق على مشاهد الغزو. في اللقطة الأخيرة تطل الكاميرا من زاوية مرتفعة على جيش ساراوونيا وهو في طريقه إلى داخل القلعة، ويفاجأ المتفرج بظهور أعداد من الشباب والرجال في مؤخرة الجيش يرتدون الملابس العصرية. وهو استخدام مقصود للربط بين الماضي والحاضر، كما ينتقل هوندو من الموسيقى الأفريقية التقليدية إلى الموسيقى الحديثة في نفس المشهد، تأكيدا على الاستمرارية. وفي المقابلة التي أجريتها مع هوندو، قال إن الفيلم عرض في سبع دول أفريقية وحقق نجاحا هائلا، مضيفا أن دافعه الأساسي لعمل هذا الفيلم هو أن يثبت أن الدول الأفريقية الفقيرة تستطيع إذا أرادت، أن تنتج أفلاما سينمائية كبيرة. وأنتج هذا الفيلم بتمويل من وزارة الثقافة في بوركينا فاسو، وتكلف إنتاجه 3 ملايين دولار. انشغل هوندو خلال السنوات الأخيرة بالعمل في مجال الدوبلاج الصوتي للأفلام الأميركية. كما كان يخطط لتحقيق مشروعه الكبير لفيلم عن قائد الاستقلال الوطني في جزيرة هاييتي. وبوفاة ميد هوندو تفقد السينما الأفريقية والدها الروحي، وتفقد سينما العالم رائدا من رواد سينما العالم الثالث.
مشاركة :