إكمالا لقصة ومقال الأسبوع الماضي، ونزولي بالخطأ في مدينة تابعة لإحدى دول وسط أمريكا اللاتينية، واضطررنا للإقامة فيها يوما كاملا. وصلت مع صديقيّ الأمريكيين عند موظف الهجرة، وبسرعة البرق أنهى أوراقهما بجوازيهما الأزرقين، ثم حدق بي وبجوازي الأخضر، في إشارة إلى أنه لم يمر بهذا الموقف من قبل، وبعد نقاش مع مديره وحديث طويل، ختم على الجواز قائلا: أهلا بك في بنما! قبل خروجي من المطار، كعادة في كل أسفاري خارج السعودية، آخذ شريحة انترنت من ذات الدولة، لأنها أسرع وأرخص في كثير من الأحيان من الباقات الدولية، ولكن السبب الأجمل أن هذه الشريحة الجديدة لا يعرفها أحد، فتعيش مجموعة أيام خالية من صخب جوالك الشخصي! لاحظت أن الموظف قبل بالدولار الأمريكي، وهذا قد يكون متقبلا نظرا لأنك داخل المطار، ولكن الأمر المثير للتأمل عندما ذهبنا لمتجر تحويل العملات، وأجاب: الدولار الأمريكي هو العملة الرسمية للبلاد! وهذا أثار مجموعة من أسئلة اقتصادية، وبعد بحث خطافي، ومشي عشرة كيلومترات داخل المدينة، المسافة بين المطار وفندق الشيراتون الذي دفعته خطوط اليونايتد، لأنها تسببت في تأخير رحلتنا، تلحظ وبشكل كبير الحضور الأمريكي على تفاصيل المدينة، بدءا بسلسلة المتاجر الأمريكية من والمارت وهوم ديبو إلى العمائر الشاهقة في قلب المدينة! دولة بنما، كما تشير خرائط قوقل، تقع بين نقطة فاصلة بين أمريكا الشمالية والجنوبية. وسبب أهمية هذه الدولة على الملاحة البحرية أن فيها تقريبا أشهر مضيق بالعالم: مضيق بنما! وهو يختصر رحلة السفن من أوروبا وشرق أمريكا وكندا لجنوبها، فتمر من خلال هذا المضيق بدل الخط البحري الطويل والالتفاف على جنوب الأرجنتين. وفي علم الإدارة من زاوية لوجستية، اختصار للوقت والجهد والمال، وهذه ميزة تنافسية. لهذا قامت فرنسا بمحاولة لشق مضيق بنما لأول مرة، والذي يمتد لثمانين كيلا، وبعد سنوات من الحفر، وموت أكثر من عشرين ألفا من العمال، وخروج المشروع عن ميزانيته المحددة، تخلت فرنسا عن مشروعها. عندها وتحديدا في عام 1904 دخلت أمريكا على الخط وأنجزت المشروع في عشر سنوات، وافتتحت القناة رسميا في أغسطس 1914! قبل بدء المشروع كانت بنما تابعة لدولة كولومبيا، وعند المفاوضات الأمريكية - الكولومبية عام 1903، رفض الكونجرس الكولومبي بنود الاتفاق، فقامت أمريكا بدعم المعارضة البنمية وإنشاء دولة لهم، واعترفت أمريكا بها مباشرة، واستقبلت أول سفير لها في واشنطن، والذي بدوره وقع المعاهدة التي تعطي أمريكا حق التصرف والحماية للقناة، وهو استغلال لضعف وربما جهل دولة صغيرة ناشئة مثل بنما! تحركت البارجات الأمريكية لحماية القناة وأعمالها، واستمر القمع الأمريكي لأي معارضة، حتى عام 1977 حين وقع الرئيس الأمريكي كارتر معاهدة بتسليم القناة لأهلها بعد عقدين من الإدارة المشتركة، وتم ذلك بالفعل عام 1999. انتهت الحقبة الأمريكية رسميا بعد معاناة طويلة، ولكن التأثير الاقتصادي الأمريكي أصعب من أن ينتشل بتوقيع على ورق! زرت القناة وهي عبارة عن مسارين، عرض كل واحد ثلاثون مترا فقط، وخلفه قناة ضخمة جديدة افتتحت مؤخرا عام 2016، تسمح لبواخر أكبر بالمرور، حيث يمر هنا 14000 سفينة سنويا! تكلفة كل سفينة حسب وزنها. متوسط ما تدفعه كل سفينة مئة وخمسون ألف دولار، وقد يتجاوز الرقم ثمانمئة ألف دولار للسفن الثقيلة تدفع مع كل عبور للقناة!! السبب، أن هذه القناة تختصر عليك تكلفة أسبوعين من السفر إلى ثماني ساعات فقط! ولهذا تدر القناة على دولة بنما أكثر من ملياري دولار سنويا! طفنا العاصمة سريعا وكان فيها احتفال ضخم - كرنفال باللغة الإسبانية - في أول مارس من كل عام. حضور النازحين من فنزويلا نظرا للمجاعة والحصار الأمريكي الكبير هنا، حيث تجمع بنما النقيضين: الثراء الفاحش، والفقر المدقع. انتهت رحلة بنما، ودقت ساعة الصفر للسفر لمدينة مندوزا الأرجنتينية، حيث بدأت حكاية أخرى، قد تخرج للسطح في يوم من الأيام!
مشاركة :