تصميم الكرسي تحدٍ كبير يجبهه المصممون. قلة منهم لم تخلّف بصمتها في هذا الضرب من التصميمات. وبعض منهم مثل المصممَيْن البريطانيَّيْن، ادوارد باربر وجاي أوسبِرجي، يُدخل تطويرات تكنولوجية في كراسي الجلوس. وفاز المصممان هذان بلقب المبتكرين في الصالون الباريسي «ميزون إيه اوبجيه 2013» عن كرسيهما المسمى «تيب تون» الذي طرح في الأسواق في 2011. لكن ابتكار كرسي من طراز جديد أمر نادر واستثنائي. وكثر من المصممين يقتصر «جديدهم» على استخدام مواد غير مألوفة مثل الألياف الكربونية وألياف الصوف وغيرها من المواد. وفي كل مناسبة، تعرض نماذج جديدة من الكراسي، وآخرها «ماركت» للمصمم الفرنسي نوييه ديشوفور- لورنس، الذي استوحى كرسيه من أكشاش السوق، ومجموعة «هيدن شيرز» (الكراسي الخفية) لصاحبها المصمم بونوا كونفار بالتعاون مع استوديو «ايبريد». وفي معرض «ميزون إيه اوبجيه» الأخير في الشهر المنصرم، وصلت تصاميم جديدة من أوروبا، آخرها كرسي «بازل» للمصممتين تسي- تسي- وقاعدة الكرسي هذا غير متناظرة، وكرسي ليك- رام» للمصممة الفرنسية فولسيان كاساسنوفا. ولا شك في أن الكرسي هو طفل المصممين المدلل. «فتصميم واحد لا غنى عنه في مسيرة المصمم المهنية. وهو يحمل لمسة طرازه ويتوجه إلى الجمهور الأوسع. وقد يغدق نجاح النموذج الجديد على صاحب التصميم أموالاً كثيرة. والكرسي هو مستودع مفهوم السلطة والمكانة الاجتماعية»، يقول المصمم كريستيان غيون. فهو لا يقصر على وظيفة الجلوس، بل له بعد رمزي يشير إلى المكانة والسلطة. وفي اللغات الأوروبية اسم الكرسي مشتق من الكلمة اللاتينية كاتيدرا، وهي في أصل كلمة كاتدرائية. وفي عهد الملكية الفرنسية، كان الملك هو من يجلس على الكرسي فحسب، وكان البلاط كله يبقى واقفاً احتراماً له. وحملت الثورة الصناعية الديموقراطية والراحة معها، وصارت الكراسي جزءاً من حياتنا اليومية، وهي تنتج بالملايين في المصانع والمحترفات. ويستقبل الكرسي عامة الناس والمصمم الذي ابتكرها. يرى المصمم باتريك جوين أن «رسم كرسي هو صنو تأليف معزوفة من طريق استخدام أقل عدد من النوتات، وقد تجلو هذه على صورة أغنية صيف أو طقطوقة أو سيمفونية»، وأن تصميماً واحداً لا يفترض قدرة كبيرة على الابتكار. فالمصمم ملزم التقيد بقيود صناعية. وابتكار كرسي يقتضي وقتاً طويلاً. فبحسب أورا-إيتو، يلزم المصمم 6 أعوام على أبعد تقدير لتصميم واحدة أو 3 أعوام على أقل تقدير. فهذا الشيء المألوف والحاضر في الحياة اليومية، بالغ التعقيد. وأورا- إيتو يعمل منذ أعوام على مشروع كراسٍ خاصة بدار نشر إيطالية. ويقول إن الكرسي الذي يسعى إلى ابتكاره «يحمل رسالة يفترض بها أن تبلغها الناظر إليها والجالس عليها». وهذا شأن كرسي «تيب تون» للمصممين البريطانيين باربر وأوسجربي. «فما يميز الكرسي هذه عن غيرها هو أنها تميل إلى أمام لدى الانتقال من وضعية الجلوس التقليدية حين الراحة إلى وضعية العمل المائلة قليلاً إلى أمام. وهي تميل 9 درجات قياساً إلى زاوية الرجلين. وهذا اختلاف كبير. فلدى الانصراف إلى العمل ينكب المرء إلى أمام على مكتبه أو طاولة العمل. وهذا صنف جديد من المقاعد»، يشرح ايكار ميز، مدير قسم التصميم في فيترا. فالمرء يسعه أن يتمايل أو يتأرجح على كرسي هزازة ولو كان منكباً على عمل. وأطلقت هذه الكرسي في الأسواق في 2011، وغزت قاعات الكلية الملكية للفنون في لندن وقاعات وصالات مدرسة التصميم البريطانية، ديسون، وقاعات الاجتماع في الشركات والمكاتب والمطابخ والمقاهي والمحترفات. وبيع منها 60 ألف كرسي. ولكن كيف أبصرت النور كرسي «تيب تون»؟ يروي المصممان أن لجنة الأهالي في المدارس كلفتهما دراسة عن الكراسي. و «بدأنا بإعداد لائحة بالمشكلات التي يفترض تذليلها في كرسي من غير براغٍ أو مسامير يدوم طويلاً. ثم راقبنا طريقة جلوس التلاميذ. فوضعيات الجلوس تغيرت، لكن الكراسي بقيت على حالها. وأجرينا بحثاً جمع المعلومات الطبية ومعلومات عن بيئة العمل والحركات ووضعيات الجلوس الصالحة، وخلصنا إلى أن الأطفال يشعرون بالحاجة إلى الحركة لدى الجلوس وأن مواكبة الكرسي انحناء التلميذ إلى أمام تفيد الحوض والعمود الفقري وتحسن الدورة الدموية في عضلات المعدة والظهر». وبعد البحث وإعداد رسوم رقمية على الكومبيوتر، اختار المصممان مصنع فيترا للمعدات المكتبية العالية الجودة. و «تعاونا مع المصممين، وبحثنا في التكنولوجيا والحركة. فالمصممون لا يأتون ومعهم الرسم جاهزاً للتنفيذ. وإنتاج الكرسي اقتضى التعاون والبحث المشترك والدراسة، وإجراء اختبارات على مجسمات شبيهة. وفي كل تجربة، كنا نقوّم الأخطاء التقنية والثغرات ونصححها. وبلغ عدد التجارب نحو ثلاثين، وكان التحدي الأبرز هو نقطة التوازن عند الانتقال من وضعية إلى أخرى من غير أن يقع المرء عن الكرسي أو أن يهتز. واقتضى استقرار الكرسي تقدمة وضعيتها العمودية إلى أمام، ثم فكرنا في كيفية تكديسها وتخزينها». وصنعت عشرات النماذج البلاستيكية والحديدية. وفي نهاية الأمر، اخترنا كرسياً من البلاستيك وزنها 4.5 كلغ. وقالب الإنتاج وزنه عشرون طناً من الفولاذ المفرغ. ويعصى المرء حين يرى الكرسي البلاستيك أن يصدق أنها خرجت من «باطن» آلة معدنية ضخمة وثقيلة وبالغة التعقيد لها أربعة أركان تفتح على الجانبين. فإنتاج الكرسي وثيق الشبه بنحت منحوتة. وإثر إنجاز القالب الصلب، بدأ العمل بإنتاجها، والأمر تطلب عامين ونصف عام. وهذا وقت «ضئيل». * صحافية، عن «لوموند» الفرنسية (ملحق «كولتور إيه إيدييه»)، 21/9/2013، إعداد منال نحاس
مشاركة :