الدولة الحديثة كمفهوم، لها ركائز أساسية تنبني عليها، يأتي في مقدمها القوانين والأنظمة، والتي تصاغ لتكون الإطار الجامع الذي يضمن وحدة التراب الوطني من جهة، ويؤسس لعقيدة قومية بالمعنى السياسي لا الديني، وهي ما يمكن تسميته ب»المواطنة» كثيمة تشترك فيها المكونات الدينية والعرقية والثقافية المختلفة، والتي وإن تباينت فيما بينها، وبرزت فروقاتها الذاتية الراجعة للتنوع في المكون السسيولوجي لها، إلا أن هذا التنوع لا يجعل لأحد دالة فضل أو أولوية أو سبق على الآخر، لأن التمايز هنا يكون شأناً فردياً بحتاً، وإن أخذ شكلاً اجتماعياً، أو تمظهر عبر ممارسات عامة، تشارك فيها «الجماعة» بوصفها بنية متماسكة تعلن من خلالها اختلافها عن الآخر الشريك في الوطن، وهو الاختلاف الذي من الممكن أن يكون مدمراً أو ذا نزعة طاردة قمعية، في حال طغت «الهوية الفرعية» على «الهوية الجامعة»، أو بإمكان هذا التباين أن يشكل إضافة نوعية وثقافية، في حال استحال قوة فاعلة تدفع لتدعيم بنية «الهوية الجامعة» وإظهار ثراها وغناها، وهو بذلك يكون لبنة تنبني عليها مفاهيم المواطنة والدولة المدنية الحديثة، وهي مفاهيم غير تامة الإنجاز، أي أنها ليس بأيقونات نهائية مصمتة، بل تراها مثل الكائن الحي، الذي ينمو ويتشكل، ويتطور يوما بعد آخر. بناء على ما تقدم، تحضر «المواطنة» كدالة على الفرد ضمن الجماعة البشرية، وهو فرد ليس بتائه بين كثبان الرمال أو أمواج البحار، بل، إنسان صانع ومشارك ومالك وصاحب مسؤولية في بناء الدولة وإكمال صيرورتها، له من الحقوق، وعليه من الواجبات، ما يكفله القانون، الذي يضمن له المواطنة التامة غير الناقصة، بوصفه «مواطناً» وحسب، لا أكثر ولا أقل. هذا المفهوم، يضع جميع المواطنين على قدر واحد من المساواة، لا يوجد بينهم من له أفضلية على الآخر، وليس لأحدهم أن يخرق السفينة، أو يحرم أحداً، أو يمنح أحداً، دون سند قانوني ونظامي، يمثل المرجعية التي يحتكم لها الجميع. وهي المساواة التي أكد عليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، في كلمته التي وجهها إلى المواطنين، الثلاثاء الماضي، 10 مارس الجاري، حين قال: «لا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى»، مشدداً على «السعي المتواصل نحو التنمية الشاملة المتكاملة والمتوازنة في مناطق المملكة كافة، والعدالة لجميع المواطنين، وإتاحة المجال لهم لتحقيق تطلعاتهم وأمانيهم المشروعة في إطار نظم الدولة وإجراءاتها.» «العدالة» التي أكد عليها الخطاب الملكي، هي مفهوم أساسي في الدولة الحديثة، لأنها مرتبطة بتطبيق القانون، والاحتكام إلى القضاء النزيه، والبعد عن المحاباة، وهو ما يحقق «التنمية» بشكل مستدام ومتوازن، كما جاء في الخطاب، بحيث لا تكون هنالك أولوية لمنطقة على أخرى، وإنما ترسم السياسات التنموية والاقتصادية بحسب حاجة المواطنين في مدنهم وقراهم وهجرهم، وبما يوفر لهم مستلزمات الحياة الكريمة. ومن أجل تحقيق ذلك، جاءت دعوة الملك سلمان إلى «التصدي لأسباب الاختلاف ودواعي الفرقة، والقضاء على كل ما من شأنه تصنيف المجتمع بما يضر بالوحدة الوطنية»، ف»أبناء الوطن متساوون في الحقوق والواجبات». مستشعراً الخطر الذي تسببه الخطابات ذات النزعة الأصولية والإقصائية. إن المجتمعات الحديثة هي تلك التي تسير نحو تطوير أسسها المعرفية، وتستطيع أن تنظم تنوعها تحت سقف القانون، بعيداً عن المشاحنات المذهبية والقبلية والعرقية، وهي مسؤولية مشتركة، وأولوية ملحة، استشعرها الخطاب الملكي، لينهض بها الوزير والمسؤول والكاتب والموظف ورب الأسرة، بغية تحصين المملكة من النيران المحيطة بها. نيران اشتعلت بجنون الكراهية العمياء، وعلينا الحذر من جحيمها المتطاير!.
مشاركة :