لا تجد الدولة العميقة في الوطن العربي أمامها إلا حقل الطاعة والإجماع. فهي من ملحقات الحاكم وتعبيراته الرمزية. وهي نافذة أشد ما يكون النفوذ، لكونها تدير شبكة لانهائية من العلاقات والمصالح، وفي مختلف الاتجاهات. والثورات لا تكتمل إلا بالتغلب عليها. ما الدولة العميقة في الوطن العربي؟ ما ملامحها؟ وما طرائق اشتغالها؟ وكيف تدبر أزماتها وانتقالاتها المعيبة في مطلق الأحوال؟ وهل من نموذج دولوي واحد، ما بين المحيط والخليج؟ وماذا عن “الدولة داخل الدولة” و”الدولة الموازية” و”الدولة اللا مرئية” و”الدولة الوحش” و”الدولة اللا دولة” كنماذج معاشة ومتجذرة في سياقنا العربي الراهن؟. الداعي إلى استعادة السؤال بصدد هوية الدولة، متصل بأزمة الحراك الثوري، إذ إن الحراك الشعبي يزيَّف ويُسرق من فاعليه، والثورة تختطف أقاحيها المزهرة، وتصير بلا معنى، مع عودة الحرس القديم، فلا تغيير إلا في الشكل، فيما الجوهر ثابت ومتجذر. قد يكون هذا التخريج الأولي مغرقاً في اليأس والتشاؤم، وقد يكون منتصراً للواقعية، فما حدث بالجزائر والسودان خلال هذا الأسبوع، وما حدث قبلاً في النسخة الأولى من الربيع العربي، يدفع إلى الاقتناع بأن الجهات النافذة، التي كانت جزءاً أو كلاً من المشكل، هي التي تقدم نفسها لتدبير المرحلة الانتقالية وتأكيد الحاجة إليها مهما تعالت أصوات المحتجين، مطالبة برحيل حراس المعبد. ففي كل نظام هناك نواة داخلية عصية على التغيير والإزاحة، تعمل باستمرار على تقوية رساميلها الرمزية والمادية، وتعميق نفوذها في مختلف مكونات النسق العام. النواة الصلبة ذاتها، هي التي يُستدل عليها بالدولة العميقة أو حكومة الظل أو السلطة اللا مرئية، بوصفها “مؤسسة” أخطبوطية تتملك شبكة من المصالح والتحالفات، تحكم وتسود، خارج القانون وبعيداً عن أية محاسبة، وفق جدل خفاء وتَجَلٍّ محدود. يجمع الباحثون في العلوم السياسية والاجتماعية على أن مفهوم الدولةالعميقةDeepState حديث للغاية، وتحديداً في العالم العربي، فلم يستعمل بتواتر أكبر إلا مع “انتكاسة” الربيع العربي، وعودة “النظام” القديم إلى دفة الحكم مجدداً، وفق نسخة مزيدة ومنقحة. وبذلك فهو يدل على بنية “لا مؤسسية” للتحكم تتكون من مجموعة من الأفراد والجماعات والمؤسسات التي تنتمي أو لا تنتمي إلى الدولة، وتحوز سلطات واسعة تمكنها من حيازة نفوذ عالٍ، يسمح لها بالاشتغال خارج الزمن الرسمي، بدرجة عليا من الفاعلية والإجبار. وهي بذلك كبنية نافذة تحتكر العنف وصناعة القرار وبسط السيادة على المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والإعلامية والأمنية. فآل الدولة العميقة هم أشخاص فوق العادة يحوزون ما لا يحوزه الآخرون المُهيمَن عليهم، وهذا ما يجعلهم مخطوبي الود من باقي صناع القرار في أعلى مستويات النسق الدولتي، لأنهم يمتلكون السلطة والنفوذ، ما يُيسر عملية تصريف القرار بواسطتهم. فالوجاهة الاجتماعية كانت وما زالت توفر مصدراً آخر لاكتساب وسائل النفوذ والتأثير في المجتمع، فمن يملك وسائل الإنتاج والإكراه، سواء بالانتماء للجهاز الحاكم، أو عن طريق التحالف المصالحي معه، تتوفر له إمكانات التأثير والتحكم في قواعد اللعب، خصوصاً في ظل أنساق يكون فيها الأشخاص أهم من المؤسسات. الدولة العميقة هي سلطة لا مرئية تتكون من أجهزة المخابرات والجيش وكبار المستشارين ورجال الأعمال والسياسة الأكثر قرباً من الحاكم ما يجعلها الأكثر استفادة واستدامة حتى وإن دارت بالحاكم الدوائر. عبد الرحيم العطري إن المنتمين إلى الدولة العميقة من الشخصيات السيادية في مربع الحكم ودوائر بناء القرارات وتصريفها، يدافعون دوماً عن أطروحة الاستمرارية والستاتيكو، فما يهمهم هو تأمين الاستدامة للأنساق السلطوية القائمة، ولهذا تجدهم دوماً محافظين ورافضين للتغيير، ملوّحين بمخاطر التفكك واللا استقرار واللا أمن. خصوصاً أن المفهوم ذاته يتحدر من حيث أصوله، من صميم الدول القومية، التي جعلت من العدو الإيديولوجي، مدخلاً لترميم الهوية وإعادة بناء ثقافة الإجماع. وعليه، يمكن القول بأن الدولة العميقة هي بنية تقليدية تراكم المزيد من السلطات والخيرات على حساب الحكومات المعلنة، فهي سلطة لا مرئية تتكون من أجهزة المخابرات والجيش وكبار المستشارين ورجال الأعمال والسياسة الأكثر قرباً من الحاكم، ما يجعلها الأكثر استفادة واستدامة، حتى وإن دارت بالحاكم الدوائر. لقد رحل بن علي ومبارك والقذافي وبوتفليقة والبشير، لكن أنظمتهم، أو بالأحرى دولهم العميقة، لم تنته، بل استمرت ناتئة ومتجذرة، فإن مات “الرئيس” رمزياً، فإن “الحرس القديم” حي لا يموت، ذلكم ما يتكرر في الزمن العربي، بفارق في الدرجة لا في النوع. فأن ينتصر نظام الباءات في الجزائر (وهم سدنة هيكل بوتفليقة ويتعلق الأمر بـ: عبد القادر بن صالح، الطيب بلعيز، نور الدين بدوي)، على الرغم من اندحار باء واحدة، فذلك دليل مؤلم على أن هذه البنية اللا مؤسسية والتقليدية تمتلك الكثير من الآليات للإجهاز على انتصارات الربيع العربي. لقد رحل بن علي ومبارك والقذافي وبوتفليقة والبشير لكن أنظمتهم أو بالأحرى دولهم العميقة لم تنته بل استمرت ناتئة ومتجذرة فإن مات “الرئيس” رمزياً، فإن “الحرس القديم” حي لا يموت. عبد الرحيم العطري يوماً ما صاح الشاعر البهي مظفر النواب معتذراً: “اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية، بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس، أروني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه”. أي نعم هل من موقف عربي أكثر إيلاماً وبؤساً مما نحن فيه؟ هل من لحظة هوان فادحة أكثر قسوة وإيغالاً في الرداءة مما نحن فيه؟ فلا ربيع يكتمل، ولا “كنداكة” تفرح بسقوط البشير، ولا جزائري يحتفي برحيل الباءات. ما يميز الدولة العميقة في الأنظمة العربية هو حرصها الدائم على الظهور بميسم المنقذ من الضلال، إنها تقدم نفسها كحامية للديموقراطية والشرعية والهوية وما إلى ذلك من مفاهيم جاهزة للاستهلاك لا غير، إنها تعمل على تجديد قاموسها باستمرار، ولا تجد أي حرج في الانتقال من حد السلطة إلى حد الشعب، ومن اليمين المتطرف إلى اليسار المعتق، فلا شيء أيسر من تغيير السترات واستبدال الشعارات. تبدي رموز الدولة العميقة قدرة فائقة على احتواء مضمون أي خطاب وتصريفه، مهما بدت المسافة بعيدة بينه وبين أفق اشتغاله، إنه بهذا المعنى والمبنى يقدم نفسه كخطاب وممارسة تعمل على تكثيف الرمزية وتوظيفها في مختلف المجالات. وفي إطار هذا التوظيف تحضر التقليدانية والانشداد إلى الماضي، في شكل استعادات متواصلة للتدبير القديم، إنه منطق التوليف والترميق الذي يتكثف أكثر في التوصيف التالي: “مؤسسات عصرية بتمثلات وممارسات تقليدية”. السلطة المرئية واللا مرئية في الحالة العربية لا تدافع إلا عن “الحاكم” الذي تفيد منه وتدور في فلكه ولا تنشغل إلا بمراكمة الأرباح المادية وتعميق النفوذ.عبد الرحيم العطري بالأمس القريب كانت الدولة العميقة في الجزائر تدافع عن العهدة الخامسة، وترى في رئيس مُقْعَدٍ، الأجدر بقيادة بلد المليون شهيد، نحو العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، ذات الدولة برموزها اليوم تتغنى بالانتقال الديمقراطي والانتخابات الرئاسية الأكثر نزاهة وشفافية. نفس “الفيلم”، بتفاصيله المثيرة للشفقة والغثيان، يتكرر وسيتكرر، اعذروني إن بدوت متشائماً هذه المرة، سيتكرر في كل “اغتيال” محتمل لربيع لا يكتمل إلا في الحلم. من المفارقات المثيرة أن الدولة العميقة في الضفاف الأخرى تدافع عن المصلحة الفضلى للوطن، إنها تبدو محافظة ومدعمة لاستراتيجيات إعادة إنتاج نفس الأوضاع، ولو تطلّب الأمر اللجوء إلى شوفينية مطلقة تسثمر خطاب “الهويات القاتلة” المفتوح على “التفوق” و”نقاء النوع” و”القوة العظمى”. فيما هذه السلطة المرئية واللا مرئية في الحالة العربية، لا تدافع إلا عن “الحاكم” الذي تفيد منه وتدور في فلكه، ولا تنشغل إلا بمراكمة الأرباح المادية وتعميق النفوذ، في انتظار”انتقالات الحكم”لتحسم الحال وتدبر المآل. إذا كانت الحكومة الرسمية تفترض وجود موالاة ومعارضة على الأقل، فإن حكومة الظل أو الدولة العميقة في الوطن العربي، لا تجد أمامها إلا حقل الطاعة والإجماع، فهي من ملحقات الحاكم وتعبيراته الرمزية، فهي نافذة أشد ما يكون النفوذ، لكونها تدير شبكة لانهائية من العلاقات والمصالح، وفي مختلف الاتجاهات، حتى المدنية منها. إنها تتجدد وتنبعث من رماد الحاكم كطائر الفينيق، تخرج من باءات الجزائر وعسكر البشير، وتتقدم من غير خجل، تترافع عن الحرية والكرامة، معلنة للجميع أنها جاءت لحماية الربيع من انزلاقاته وتحويراته نحو الخريف أو الصيف القائظ. “فأي موقف أكثر بذاءة مما نحن فيه؟”، كما صاح الشاعر النواب، وكما لا أرادت حفيدة ملكات النوبة؟. المصدر: TRT عربي
مشاركة :