يتمتع مشروع المفكر البحريني الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري الفكري بقدر كبير من الحيوية والتجدد، وبالقدرة الفائقة على المساءلة والمراجعة والتعديل لقضايا الفكر العربي الأساسية. بل إن الأهم في مشروعه الفكري هو تلك القدرة على المراوحة بين الفكر والواقع العربيين بمنطق جدلي. فهو ينطلق من الواقع إلى الفكر ومن الفكر إلى الواقع. ومن المهم بالنسبة للأجيال الجديدة الاطلاع على هذا الجهد الفكري الكبير، فقد ترك الأنصاري ثروة فكرية هائلة في حاجة إلى مراجعة ودراسة، بل وتدريس في الجامعات البحرينية والعربية، ضمن تيار الفكر العربي المعاصر والذي يمثل الأنصاري أحد أهم رموزه الكبيرة، مثل محمد عابد الجابري وعبدالله العروي ومحمد أركون وغالي شكري وهشام جعيط والطيب تيزيني وغيرهم كثير. فمنذ كتابه (تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي) الصادر سنة 1980م، وفي كتابه المهم جدًا (الفكر العربي وصراع الأضداد) الذي أنجزه الأنصاري في أواخر السبعينات ونشره في 1995م، قام الكاتب برصد وتحليل حركة الفكر العربي منذ مطلع القرن العشرين وحتى نهاية الحقبة الناصرية. وفي كتابه (مساءلة الهزيمة) الصادر في العام 2001م، بعنوانين فرعيين: جديد العقل العربي بين صدمة 67 ومنعطف الألفية - ثقافة المراجعة بوجه التراجع، عاد الأنصاري إلى تحليل الفترة من العام 1971م وحتى العام 2000م، والتي وصفها بمرحلة (ثقافة المراجعة في زمن التراجع) أو (حرب الثقافة بعد صمت المدافع)، حيث أثار الكاتب القضايا عددا من القضايا الأساسية التي ما تزال حية في الواقع وفي الوعي الفكري العربي: - دائرة الحصارات: وركز الأنصاري على ما يسميه فكرة الحصار التي حكمت الفكر العربي الإسلامي، الذي لم يتحرر من هذا الحصار إلا في القرون الأولى من تاريخ الحضارة الإسلامية (عندما استطاع التعامل مع أصوله الذاتية، ومعطيات التراث الإنساني بقدر من الحرية، والعقلانية المستقلة الناقدة التي أعطته قيمته في تاريخ الفكر العالمي. مستعرضا حالات الحصار الطويلة الراجعة إلى طبيعة القوى المجتمعية الداخلية والخارجية، وصولاً إلى محاولات الفكر العربي الحديث لاستعادة التحرر في عصر النهضة الحديثة، إلا أنه بعد فترة قصيرة عاد إلى حالة الحصار، بدءا من نكبة 1948م، وصولا إلى هزيمة 1967م فتضاعفت حدة الحصار في ظل جدلية الهزيمة والعقل، والمهم أن الأنصاري حاول رصد تحولات ما بين صدمة هزيمة 1967م، وانتعاشه الروحي مؤقتًا في 1973م، مع حرب أكتوبر، وصعود قوة النفط العربي، ثم عودة المناخ المهزوم والمأزوم من كامب ديفيد (77-79)، إلى احتلال بيروت 1982م، والحرب العراقية الإيرانية 1988م، وخطيئة احتلال الكويت وتدمير العراق بين 1990-1991م، وما رافقها من (فتنة عربية شاملة كانت بمثابة الحرب الأهلية العربية الموسعة). ولعل الفكرة الأكثر أهمية التي ساقها الأنصاري في هذا الإطار تتعلق بتوصيف القرن الماضي عربيًا بأنه (قرن الارتطام الحقيقي للأمة بحقائق ووقائع العصر الحديث في أبعاده المختلفة)، وأن (أصدق ما ينطبق على الفكر العربي خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، ومنذ هزيمة 1967م أنه: فكر تحت الحصار) بأوسع معاني الكلمة، وصولا في النهاية إلى ما يسميه الأنصاري (الحصار (الأصولي) للفكر العربي أو (الصحوة الماضوية المعادية للعقل والباعثة لمذهبيات وفتن تاريخية). - إشكالية التخلف والوعي به: أشار الأنصاري إلى أن نُذر الهزيمة ومؤشراتها قبل 1967 كانت معلومة وقد أشار إليها عدد من المفكرين العرب قبل الهزيمة نفسها، مثل: نجيب محفوظ، وخليل حاوي، وأمل دنقل، وعبدالله القصيمي، وغيرهم في مواجهة غياب الديمقراطية، ولكن لا أحد كان يستمع، وهذا جزء من المأزق التاريخي العربي على صعيد الوعي والواقع على السواء فإذا كان التخلف كارثة، فالكارثة الأعظم ألا ندرك أننا متخلفون أصلا. ولعل هذا ما جعل الحسم العربي في العديد من القضايا الجوهرية التي تخص الفكر والدين والسياسة والاقتصاد مؤجلا أمام استحقاقات الواقع والتاريخ. - خطاب التنمية الموارب بين الثروة والثورة: وتناول الأنصاري ضمن هذه النقطة مرحلة ما بعد عبد الناصر، وكيف تراجعت بالتدريج كلمة ثورة، وحلت مكانها كلمة تنمية، ودفعت الهزيمة العسكرية العربية في العام 1967م المعسكرين العربيين الكبيرين المتصارعين: التقدمي والرجعي إلى نوع من التقارب والعمل العربي المشترك من أجل تغليب التناقض الأساسي مع العدو القومي على التناقضات السياسية والأيديولوجية العربية. إلا أن هذا التوافق لم يستمر طويلا وانتهى إلى صدامات متعددة خلال السنوات اللاحقة، ولكن بأشكال مختلفة. - الخطر الأصولي: حذر الأنصاري هنا مما أسماه (التأثير المتزايد للمد السكاني الريفي الأصولي على صعيد الفكر)، فهؤلاء الذين عجزت المدن عن تمدينهم، ما يزالون ريفيين في طرق تفكيرهم وسلوكهم السياسي والاجتماعي المميز بغلبة الطابع الخرافي في التفكير لديهم. حيث يشير في هذا السياق إلى أن المتأمل في طبيعة الثروات، والانقلابات، والحركات السياسية في العقود الأخيرة سيلاحظ أن (الجماهير الريفية في الأرياف العربية مهملة، ولذلك وبعد خيبتها في وعود التحديث المديني الليبرالي اليساري والقومي والتقدمي بعامة، قد تسلحت بأيدولوجيتها الدينية الأصولية وتشبثت بها. ففي الريف كان الدين دائمًا أصوليًا وحاسمًا وشعبويًا وبسيطًا، ولذلك يتم توظيفه لإنهاء التسلط المديني الاعتدالي). وهنا يدعو الأنصاري للخروج من هذا المأزق بضرورة التوجه بالإصلاحات السياسية والاقتصادية نحو أحزمة البؤس والفقر لتعزيز مدنية الدولة وإخراج الريف العربي من دائرة البؤس. - حرب الثقافة: وتعد هذه النقطة من أهم محاور هذه المراجعة المهمة التي أنجزها الأنصاري، وهي العمل الثقافي باعتباره خط الدفاع الأخير في مواجهة الانهيار والحصار والهزيمة، بل انه (يتحول إلى جبهة مواجهة واثبات وجود في وجه الاختراقات المضادة، مما يسمح بالافتراض بأن العروبة والهوية العربية الواحدة تقف أو تسقط في نهاية المطاف، باعتبارها ثقافة ومسألة انتماء ثقافي قبل أي اعتبار) فقد أفرزت - حسب الأنصاري - العقود الثلاثة الأخيرة بعد هزيمة 1967م حركة مراجعة ثقافية جادة في مواجهة الهزيمة، مازالت تتقدم، وهي تشكل إحدى أهم حركات إعادة التأسيس الفكري واستئناف البناء الحضاري في حياة العرب. وللحديث صلة..
مشاركة :