9 أشهر من الجحيم في «إمارة السخرة»

  • 4/17/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

«وعدوه بالجنة فاكتوى بالجحيم القطري لتسعة أشهر كاملة»، هكذا لخصت وسائل الإعلام الكينية المحنة التي مر بها شابٌ في مقتبل العشرينيات من عمره، توجه للعمل في «إمارة السخرة» مطلع عام 2018، ليعود من هناك في أواخر العام نفسه، وقد فقد القدرة على السير جراء «ممارسات العبودية» التي تعرض لها في قطر. بطل القصة - التي هزت الأوساط السياسية والحقوقية والإعلامية في كينيا - يُدعى إسحاق كيبروتيتش (23 عاماً) وقد أغواه أصحاب وكالةٍ للتوظيف في بلاده بسراب الحصول على أموالٍ طائلة من وراء العمل كـ «حارس أمنٍ» في قطر، وهو ما اضطره لبيع ماشيته وممتلكاته لجمع الأموال اللازمة للسفر، ودفع رسوم توظيفٍ، تزعم الدوحة أنها لا تشترط أن يتحملها القادمون للعمل فيها. وفي هذا الإطار، أنفق كيبروتيتش قرابة 130 ألف شلن كيني (ما يصل إلى 1300 دولار أميركي) لتأمين حصوله على الوظيفة المزعومة التي وُعِدَ بها في قطر، أملاً في أن تُدر عليه عائداً مجزياً يُمَكِنَهُ من انتشال أسرته، خاصة أشقائه السبعة، من هوة الفقر المدقع. وبحسب وسائل الإعلام الكينية التي أفردت مساحاتٍ واسعةً لتناول محنة هذا الشاب - الذي ينحدر من مقاطعة ناندي غربي بلاده وكان يعمل في محال للبقالة قبل سفره إلى قطر - لم تكفِ كل مدخرات أسرته وممتلكاتها لسداد رسوم التوظيف، وهو ما دفعه إلى استدانة 80 ألف شلن كاملة (نحو 800 دولار) من بطلٍ سابقٍ لماراثون لندن يُدعى مارتين ليل ينحدر من نفس قريته. ولم يكن كيبروتيتش - الذي لم يستكمل تعليمه بعد المرحلة الإعدادية - يعلم أن اجتيازه كل هذه العقبات لن يؤدي سوى لوقوعه في ما وصفه معلقون كينيون بـ «الفخ القطري»، الذي بوغت ببوادره منذ وصل في منتصف الليل إلى مطار حمد الدولي في الدوحة، بعد رحلةٍ استمرت أكثر من ست ساعات، بدأها في مطار جومو كينياتا بنيروبي. فلدى وصوله و12 شخصاً آخرين من مواطنيه إلى المطار القطري، تبين لهم زيف أول الوعود التي قطعها أرباب عملهم لهم، بأنهم سيجدون من سيستقبلونهم لدى هبوطهم من الطائرة. واضطر الجميع للانتظار لساعاتٍ طويلة، حتى وصل شخصٌ يستقل شاحنةً صغيرةً مقفلةً «فان»، وقال لهم إنه يُدعى جون وأنه يعمل في الشركة التي يُفترض أنها تعاقدت معهم وهم في كينيا، بعد مقابلةٍ شكليةٍ جرت عبر شبكة الإنترنت. وفي الساعات التالية، هبطت المزيد من المفاجآت الصاعقة على رؤوس الشاب ورفاقه الذين جاءوا من مناطق كينيةٍ مختلفةٍ. فقد أخذهم «جون» المزعوم هذا، إلى مستودعٍ تابعٍ للشركة وليس إلى مكانٍ ملائم للإقامة، كما تركهم في جوف الليل بدون مالٍ أو طعام، رغم أنهم كانوا قد وُعِدوا قبل الوصول إلى «دوحة السخرة»، بأنهم سيمُنَحون مصروف جيب، وسيُزَوَدون بطعامٍ يتم خصم قيمته بعد ذلك من أول راتبٍ لهم. ولم يكن التنصل من هذه التطمينات هو الصدمة الوحيدة التي واجهها كيبروتيتش خلال أيامه الأولى في الدويلة المعزولة، فقد أُجْبِرَ وزملاؤه بعد ذلك على توقيع عقد عملٍ لا يستمر سوى لثلاثة شهور لا أكثر، مع أنهم كانوا قد وقعوا في نيروبي تعاقداً آخر كان يُفترض أن يستمر سنتين كاملتين. وبدلاً من العمل حارس أمنٍ كما كان ينص العقد الأول، اضطر الشاب بموجب التعاقد الجديد على العمل في موقعٍ للإنشاءات وكُلِف بالتأكد من حالة التربة قبل أن تشقها أجهزة الحفر، وبتنظيم حركة المرور في الموقع كذلك. واضطر كيبروتيتش إلى البقاء رغم هذه الخديعة، وذلك بغرض تعويض جانبٍ من الأموال الباهظة التي تكبدها للسفر إلى قطر. ومع بدء العمل، اكتشف الرجل ومواطنوه البؤساء أن حصص الطعام التي تُوزع عليهم من جانب الجهات القطرية التي يعملون لحسابها لا تكفي على الإطلاق، بل إنها كانت أقل حتى من كميات الأطعمة، التي كانوا يتمكنون من الحصول عليها في وطنهم، رغم حالة الفاقة التي يعانون منها هناك. مع ذلك، دأب أرباب عملهم على خصم ربع راتبهم تقريباً نظير إمدادهم بهذه الكميات المحدودة بشدة من الغذاء. غير أن الصدمة الأشد وطأة، كانت بانتظار كيبروتيتش مع نهاية الشهر الأول لعمله، حينما تبين له أنه لن يتقاضى راتباً بعد كل العمل الشاق الذي كُلِف به. ونقلت وسائل إعلام كينية عن الشاب قوله إنه تلقى تطميناتٍ في البداية بأنه سيحصل على مستحقاته لا محالة، ولكنه أُبْلِغَ بعد ذلك أن «الرواتب قد دُفِعَت» رغم أنه لم يتلق أي أموال. وبعد ثلاثة شهور من العمل بالسخرة دون أجر، ومع حرمانه ورفاقه الكينيين من أي وثائق تُجيز لهم العمل بشكلٍ قانونيٍ في قطر، اضطروا جميعاً للبحث عن عملٍ آخر، والتضحية بـ 2700 ريال قطري (قرابة 742 دولاراً أميركياً) دفعها كلٌ منهم إلى الشخص الغامض الذي أقلهم من المطار. ولم يستطع الشبان الكينيون المطالبة باسترداد هذا المبلغ، لأنهم كانوا يفتقرون لوثائق عملٍ قانونية، تُمَكِنُهم من اللجوء إلى السلطات، لاستعادة أموالهم. وبعد طول مماطلة، تبين أن «جون» هذا هو من تقاضى رواتب العمال الكينيين المنكوبين، بعدما آثرت الشركة القطرية التي كانوا يعملون لحسابها، منح هذا الرجل المثير للجدل أموالهم بدلاً من صرفها لهم مباشرةً. وتفاقمت محنة كيبروتيتش في صباح أحد أيام شهر أكتوبر الماضي، عندما سقط خلال تسلقه درج مبنى قيد الإنشاء في موقع العمل، لينكسر مفصل وركه. وعندما وصلت سيارة الإسعاف أخيراً، وجدته لا يقوى على الوقوف على قدميه. ونُقِلَ الشاب بعد ذلك إلى مستشفى حمد الدولي، حيث بدأ فصلٌ جديدٌ من فصول التنكيل القطري به، رغم حالته المرضية. فهناك رفض المسؤولون عن المستشفى تقديم العلاج له، بدعوى أنه مفلسٌ وغير مُؤمن عليه، ما يتنافى مع التأكيدات التي كان قد حصل عليها من شركته بأنه يحظى بتأمينٍ صحي. وعلى مدار شهرٍ كاملٍ، لم يُعط العامل الكيني المنكوب سوى عقاقير مُسَكِنةٍ للآلام، قبل أن تتخلص منه المستشفى دون استكمال علاجه، وبدون توفير أي مكانٍ له للتعافي من إصابته الخطيرة، مع أنه ظل غير قادرٍ على السير وعاجزاً عن شراء عكازين كانت تكلفة شرائهما، لا تتجاوز 430 ريالاً قطرياً (أقل من 120 دولاراً). وفي نهاية المطاف، نشر كيبروتيتش تفاصيل الويلات التي يكابدها في قطر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما استرعى اهتمام المسؤولين المحليين في مقاطعة ناندي التي ينتمي إليها وانتباه سكان هذه المنطقة كذلك. كما نُشِرَ مقطعٌ مصورٌ لوالدته المريضة التي تركها في كينيا، وهي تنتحب وتناشد السلطات إعادة نجلها إلى وطنه. وفي ظل التجاهل القطري الكامل للحالة رسمياً وشعبياً، تداعى الكينيون العاملون في «إمارة السخرة» لجمع الأموال اللازمة لتوفير إقامةٍ ملائمة لـ «كيبروتيتش» وشراء عكازين يُمَكِنانه من الحركة، حتى تكفل حاكم مقاطعته بقيمة بطاقة سفر لكي يتمكن من العودة من قطر، وأعلن النائب في البرلمان الكيني عن المقاطعة نفسها أنه سيتحمل نفقات علاجه. وبحسب وسائل الإعلام في نيروبي، عاد الشاب إلى وطنه بعد 10 شهور من تركه له، وهو في حالةٍ أسوأ من تلك التي كان عليها عند المغادرة، فهو لا يزال يحتاج للخضوع لجراحة لاستبدال مفصل وركه، على أمل العودة للسير بشكلٍ طبيعيٍ من جديد. وفور عودته، وجه كيبروتيتش تحذيراتٍ لمواطنيه من مغبة التفكير في السفر للعمل في قطر، رغبةً منه في أن يتجنب الشبان الكينيون الآخرون المصير المأساوي الذي لاقاه في الدوحة، تلك التي تؤكد منظماتٌ حقوقية دوليةٌ مرموقةٌ أنها تفتقر لأدنى معايير السلامة والأمان، وتشيع فيها انتهاكات حقوق العمال الأجانب، مما أدى إلى أن يلقى مئاتٌ منهم حتفهم خلال السنوات القليلة الماضية.

مشاركة :