استبشرت خيرا بالخبر المنشور في كل الصحف عن اتفاق بحريني روسي لتحويل البحرين إلى مركز إقليمي لتوزيع القمح والصومعات الروسي، ومصدر هذا السرور أن الخبر الذي جعلته صحيفة «أخبار الخليج» عنوانها الرئيسي على صدر صفحتها الأولى يوحي بأن البحرين بما تمتلكه من إمكانيات لوجستية وبنية تحتية يمكن أن تستعيد دورها الإقليمي على صعيد التجارة الدولية، كما يفترض أن يكون ذلك بحكم المميزات التي تمتلكها البحرين بموقعها الجغرافي وخبرتها الطويلة في المجالين المالي والتجاري. إلا أن هذا التفاؤل والفرح الذي انتابني وأنا أقرأ هذا العنوان قد خف عندما تذكرت السلسلة الطويلة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والزيارات المتبادلة وخاصة على مستوى القطاع الخاص بين الجانبين البحريني والروسي والذي استمر لأكثر من عشر سنوات، وخاصة من خلال مجلس رجال الأعمال البحريني الروسي، حيث تم الحديث في أكثر من مناسبة وبعد كل لقاء أو اجتماع أو منتدى أو معرض أو زيارة عن مشاريع مشتركة وما أكثرها سينفذها الطرفان ولكنها على أرض الواقع لم تحقق ولم تر النور حتى الآن، وأخشى ما أخشاه أن يكون مصير هذا الاتفاق- بين غرفة تجارة وصناعة البحرين وبين كبرى الشركات الروسية للقمح والحبوب لتصبح البحرين أكبر مركز إقليمي لتصدير القمح الروسي إلى منطقة الخليج والشرق الأوسط- حبرا على ورق مثلها مثل العديد من الاتفاقيات السابقة والتي كان مصيرها أن تنام في الأدراج وكما يقول المثل الشعبي لا حس ولا نس. إذا رجعنا إلى هذا الملف المهم بالنسبة إلى البحرين وخاصة الاتفاقيات الكبيرة المتاحة لها في إطار العلاقات مع روسيا، فإننا يجب أن نتوقف عند ثلاث نقاط لا بد من التفكير فيها بشكل جدي ووضع النقاط على الحروف بدلا من الاكتفاء بالحديث عن النوايا وعن المشاريع المستقبلية التي تبقى من دون تنفيذ مجرد للبهرجة الإعلامية: الأولى: إن الإمكانيات الكبيرة والضخمة التي يمتلكها الاتحاد الروسي سواء في التجارة أو في الصناعة أو في الزراعة فروسيا أكبر دولة في العالم منتجة للحبوب وتصدر كميات هائلة تصل إلى حوالي 150 مليون طن من الحبوب بل تخطط روسيا اليوم إلى زيادة حجم هذا الإنتاج الزراعي إلى مستويات قياسية غير مسبوقة إضافة إلى البذور المنتجة للزيوت والبطاطس وغيرها من المواد الزراعية، حيث توفر روسيا حاليا أكثر من 50 مليون هكتار لزراعة هذه المنتجات. كما أن روسيا تنتج محاصيل هائلة من المنتجات الزراعية المهمة للأمن الغذائي العالمي ولذلك فإن الإمكانيات التي بإمكان روسيا توفيرها للتسويق والتصدير كبيرة جدا تجعلها تتبوأ المركز الأول عالميا. وهذا يعني أننا يجب أن نستفيد من هذه القدرات الهائلة في المجال الزراعي وتطوير العلاقات بين البحرين وروسيا بل بين دول المنطقة قاطبة لتأمين الجزء الأكبر من الاحتياجات من المنتجات الزراعية خاصة بعد تدهور العلاقات بين روسيا والبلدان الغربية بسبب موضوع أوكرانيا منذ عام 2014 بما يعني الاستفادة من هذا الوضع لتحسين شروط وآليات التعاون والاتفاق. الثانية: إن مملكة البحرين تمتلك قدرات كبيرة حباها بها الله على مستوى الوضع الاستراتيجي الجغرافي كمنطقة ارتباط وسطى ممكن أن تتحول إلى منصة تجارية واقتصادية لتوزيع المنتجات العالمية بما في ذلك المنتجات الزراعية ولتتحول تدريجيا إلى مخزن لجمع وتخزين هذه المواد القادمة من الاتحاد الروسي بهدف التوزيع على بلدان الشرق الأوسط ما يقلل الكلفة بالنسبة إلى الجميع من ناحية ويوفر لمملكة البحرين موارد مالية واقتصادية إضافية في إطار ما نتغنى به دائما من ضرورة تنويع مصادر الدخل من ناحية ثانية. الثالثة: هي الفرص الضائعة التي أشرنا إليها في بداية المقال وفي مقالات سابقة، فبالرغم من الإمكانيات الهائلة والمتوافرة حاليا لتطوير هذه العلاقات وجعل البحرين في مركز قوة أكبر على الصعيد الاقتصادي والمالي والتجاري فإن العلاقات مع روسيا يمكن أن تتطور بشكل أفضل وتوفر للبحرين ارتباطا أقوى يسهم في تأمينها على الصعيدين الاقتصادي والسياسي وحتى الأمني. اليوم العلاقات الاقتصادية والتجارية أصبحت مقدمة وعاملا رئيسيا من عوامل التعاون السياسي وتأمين أفضل المواقف لصالح مملكة البحرين التي تتعرض باستمرار إلى التهديدات من الأعداء وحتى الابتزاز من قبل بعض الأصدقاء والذين يفترض بهم أن يكونوا أصدقاء وقد عشنا حالة من هذا القبيل في عام 2011 عندما انقلب عليها بعض الأصدقاء وبدأوا يمارسون ضغوطا على الدولة لتبني مواقف وقرارات ليست في صالح البلاد ولا في صالح المجتمع البحريني. ومن خلال ما تقدم وغيرها من النقاط الأخرى فإننا نتمنى ألا تقتصر هذه الجهود وهذه المحاولات لتنمية العلاقات البحرينية الروسية على القطاع الخاص الذي ينظر دائما إلى الأمور من منظور الربح والخسارة بالدرجة الأولى ولا ينظر إليها من منظور استراتيجي لأن الذي يهمه الحصول على المكاسب بأسهل الطرق وأسرعها، أما بناء صوامع وتطوير بنية تخزينية والاتفاق عليها قبل الحصول على أي أرباح منتظمة سيكون صعبا بالنسبة إلى رجال الأعمال الذين يبحثون عن الطرق السهلة للكسب، ولذلك باعتباري متابعا لسير العلاقات البحرينية الروسية أعتقد أن مثل هذا الأمر يجب أن يشارك فيه القطاع الحكومي الذي يمكنه أن يستثمر في البنية الأساسية ويكون شريكا في الاستثمار وفي جني الأرباح وهذا سوف يشجع القطاع الخاص على دخول هذه المغامرة المضمونة النتائج، ومن ثم تحقيق الأرباح للجميع؛ أي القطاعين الحكومي والخاص والجانب الروسي، أما الإبقاء على الوضع على ما هو عليه والاكتفاء بالزيارات المحتشمة وتوقيع الاتفاقيات والتفاهمات وغيرها ونشرها في الإعلام فإنه لم يوصل إلى نتيجة فعالة وملموسة على الأرض، وقد أثبتت التجربة ذلك فهل تكون هذه الاتفاقية بداية لشراكة حقيقية وجادة بين مملكة البحرين وجمهورية روسيا الاتحادية نتمنى ذلك، والله من وراء القصد.
مشاركة :