يعرفان بعضهما جيداً لذلك لديهما شيء مختلف، يريد أحدهما أن يسأل الآخر عنه، أو أن يكتب عن أحد أعماله وهنا نفتح النوافذ لهما في إطلالات خاصة تشرع منها الأخيلة لتأملات جديدة.. أحاديث صادقة منبعها قلبان يتوشحان البياض لتلخص للقراء حكاية علاقة إنسانية. هنا حوار قلبين.. مساحة حرة خارج سلطة المحرر سعد عبدالله الغريبي يفتتح الشاعر محمد الجلواح ديوان (نخيل) بمعادلة عنوانها (مفتاح النخيل). تقول المعادلة/ المفتاح: «كل قصيدة.. هي نخلة. كل امرأة.. هي نخلة. كل القصائد والنساء.. نخيل»!.. وقد عبر - بصدق - عن هذه المعادلة بقوله يصف تعامله مع النخلة: أذوب لها.. أحنو عليها.. أضمها أتــوق إليها والحديــث يطــولُ كتبت لها حرفي وصغت هويتي فإن قلت شعراً فالحروف نخيل ولتحقيق العدل بين المرأة والنخلة خص كلًا منهما بديوان شعري هما على التوالي: (قوارير) و(نخيل)! والجلواح محبٌ للأحساء وللنخيل معاً، يحمل حبه لهما أينما حل، ففي حائل عندما زارها ورأى رمالها أخذ يقارنها برمال الأحساء فقال: الرمل فوقك مثل الرمل في هَجَر يبث طيباً وصدقاً دون إعياء وحين زار الباحة أخذ يوازن بين ما فيها من زهور وفواكه بما في الأحساء من نخيل يقول في قصيدة (تحية الرطب للكادي): وترى (الطيار) قد أســكره عبق (الكادي) تنامى وازدهر ويطل (البرك) من روضته يتلقــى (الغــر) عيــدا وقمــر وحتى في (بسكرة) يقارن بين (خلاص) الأحساء و(دقلة النور) الجزائرية: نخلة الإخلاص هشت وربت بنضيد من نضيد الآخرة والتي من نورها كان اسـمها دقلة النور كعقد الجوهرة وإذا كان شاعرنا محباً لقريته (القارة) ومحافظته (الأحساء) فهو أكثر حباً لوطنه (المملكة العربية السعودية) فقد تغنى بجمال مدنها. ففي قصيدة (عزف القطار) - وهي نثرية - اختتمها بأبيات عمودية جميلة، يقول: أرى العواصم في شغل وفي كلف تقاوم الزمن المشـحون بالمحن تنــام فــوق انفجــارات وأســلحة وتســتفيق علـى مــوت بلا ثمـن أما الرياض فقد شدت سـواعدها تعلي البناء وتعلي صورة الوطن ويتسع قلبه ليشمل الوطن العربي الكبير، فيتغنى بالمدن العربية التي زارها صادحاً بشعره في مهرجاناتها. وهو مهموم بقضايا الوطن العربي، ففي قصيدة (الزيدونية) التي جارى فيها نونية ابن زيدون يقول: يا فارس النون هل أنبيك عن وطن يُرثــى له ويعيــش الدهــر تأبيـنا بـــه المواطــن مشـــغول بمحــنته يجــتر تاريخــه.. يجتر ماضــينا مواطــن عربــي ليــس ذا خطـــر يمسي ويصبح مسحوقاً ومطحونا ويقارن بين ما ضيع ابن زيدون وما ضيعنا بعده: يا فارس النون إن ضيعتَ أندلسـا فقد أضفنا إلى البلوى فلسطينا ضاعت فلسطين بل أمسى تذكرها خرافــة وهــراء ليــس يعنيــنا والجلواح صديق الجميع، يحسن التعامل مع رفاقه وأقاربه وزملائه ومعلميه؛ يبادرهم بأبيات في كل مناسبة، ولا يهمل الرد عليهم. وكما حيا الأصدقاء، وعبر عن اعتزازه بصداقاتهم وهم أحياء، فقد حفل شعره بقدر هائل من قصائد الرثاء. وفي رثائياته - فضلًا عن ذكر الحزن والدموع والشعور بالفقد - لا يفتأ يسأل سؤال المكذب عن الخبر، وعن الغياب أهو مؤقت أم أبدي؟! يقول في مرثية السيد باقر بن السيد الشخص: مكانك خــال والســؤال ثقيــلُ وشخصك فينا ماثل وأصيلُ سؤال على أفق المسافات قائم أترجع أم أن الغياب طويل؟ إنه شاعر يملأ الحب قلبه الكبير: الحب أصــلح فيــنا كل مثلبة وحصّن القلب من غيظ ومن شررِ أما حب المرأة فليس له حدود. يقول مخاطباً إحدى الملهمات: ليس للحب يا (اعتدال) حدود أروع الحب ما تعدى حدودَهْ ويرى نفسه أحق بلقب (صريع الغواني) من مسلم بن الوليد؛ بل يقلل من تجربة مسلم قياساً بتجربته. يقول في ديوان (قوارير): أنا صريع الغواني لا مسلم بن الوليدِ ولذا يمتلئ ديوانه بأسماء النساء، لكنه يعترف أن حبه من طرف واحد. يقول: أثقلت حبي بعشق من جانب ووحيدِ فهمتُ حبًّا بليلى وزينــبٍ وعهــود وغــادة وســعاد وسوســن والعنود ولا بد لمنافس صريع الغواني من غزل رقيق كما في قوله لزينب: يالعينيك اخضرارا باذخا وافتنانا وانجــذابا وصبا نطق الشعر لوجه باســم أمحيًّا ما أرى أم كوكبا؟ وكقوله يصف زمام (فتاة السودان) وكيف زينته - هي - ولم يزينها: هو ما زانها حليا ولكن هي من أسبغت عليه المعاني بل إن ولعه بالمرأة جعله لا يرى فيها أيّة مزية أو وظيفة للمرأة إن لم تكن أنثى، وكأنه يوافق القول المشهور «أجمل ما في الأنثى أن تكون أنثى». يقول من قصيدة (أريدك أنثى): أريدك أنثى لا أريد قصائدا ولا جدلا مُرًا وحرقة ســاعرة أريدك أنثى لا أريدك ريشة ملونة تزهو ولا عزف ماهرة أما الشعر فهو موضوع جوهري بالنسبة له. يقول: الشــعر أسُّ هويتــي وحكايتي وأنا بشعري البلبل الصداحُ ما زلت في كل الحقول مغردا شعرا ونثرا والطريق متاح وبوفــرة الرمل الذي لا ينتهي وبقــوة المــاء الـذي ينــداح ولشاعرنا عناية خاصة بقصائده، فهو يعود إلى ما كتب حتى بعد سنوات ليعدل أو يضيف، وقد يضطره لذلك تتالي الأحداث؛ خاصة في قصائد الغزل، فقد يَتبع اللقاءَ وداع ثم استقبال ثم فراق وعتاب، وليرجع من شاء إلى قصيدة بثينة (نخيل: ص61) التي كتبها على ست مراحل، وقصيدة فوز (نخيل: ص89) التي كتبها على ثلاث مراحل في سنة ونصف السنة. والجلواح يحب تجربة ما برع فيه السلف، ففضلًا عن المعارضات؛ جرّب كتابة قصيدة مهملة الحروف - أي غير منقوطة - عنوانها (حلم كالماء) (ص150). ومما برع فيه توزيع اسم العلم موضوع القصيدة على بدايات أبياتها بحيث يمكن للقارئ الوصول إلى الاسم المعني بأخذ الحرف الأول من كل بيت وضمه إلى الذي يليه، وقد نجح في هذا الباب ولا سيما في باب الغزل. ومن جميل ما لحظته في شعره تعدد المعطوفات مثل قوله في قصيدة الزيدونية: في ساحة الشوق ما زالت مجلجلة حفظا ولحنا وتمثيلا وتدوينا وقوله في قصيدة أخرى: ثلاثون عاما والمواساة تكتسي بهاء ومجدا واستباقا وسؤددا ومن صنعته ما يعرف لدى البلاغيين بـ (الترصيع) وهو تتالي جملتين متماثلتين أو أكثر في البيت الواحد كقوله: أجواؤها عجب، آهاتها شهب والحل منسكب، مسكا ونسرينا وكثيرا ما يوظف شاعرنا المفردات المحلية في نصه توظيفاً جميلاً، كقوله في قصيدة (حائل): (يا بعد حيي) وما أحلى إذا عزفت من حائلي لدان أو إلى ناء وفي (تونس قصيدة ذهبية) يقول: غــرَّدت (برشــا) وقد ســاءلتها: هل هو الحب؟ أجيبي واكتبي وختاماً أقول لشاعرنا الجلواح: كن دائماً كما وصفت نفسك: «طائراً يشدو على فنن»!
مشاركة :