طرح رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد مبادرة “ميثاق الأخلاق السياسية” وتهدف إلى تنقية الساحة السياسية، وتضع الحدود الفاصلة بين النقد والشتم. لاقت هذه المبادرة ترحيبا مشوبا بكثير من النقد والتحفظ. فرغم أنها تلامس واقعا معيشا، من حيث تدني مستوى خطاب السياسيين، سواء في منبر البرلمان، أو في وسائل الإعلام وسوشيال ميديا، فإن توقيت المبادرة، الذي لا يمكن فصله عن الحملة الانتخابية، يضعف من أهميتها ويجعلها محل انتقاد وجدل.أصبحت جلسات مجلس نواب الشعب (البرلمان) في تونس، خاصة جلسات مساءلة الوزراء وأعضاء الحكومة، تسجل نسب متابعة عالية، لا بسبب ما تطرحه من قضايا مهمة تمس التونسي، بل بسبب ما يتخللها من عراك وشتائم يصل أحيانا إلى مستوى متدن من الخطاب بين السياسيين. وقد يشهد أي برلمان في العالم حالة احتقان وتوتر تنتهي أحيانا بتقاذف الشتائم وحتى تبادل العنف، كما أن تدني مستوى الخطاب السياسي في تونس ليس سوى انعكاس لظاهرة عالمية، يقودها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والسياسيون الشعوبيون، وحيث أضحى مجال السياسة أقل تحضرا ودماثة. لكن، ذلك لا يبرر شتم الناس بعضهم البعض ونشر الشائعات والأخبار الزائفة من باب المعارضة والنقد. ويشير عدد من الخبراء والسياسيين إلى التأثير السلبي لهذا الخطاب على حالة المجتمع بصفة عامة، فبدل أن يناقش النواب المشاغل الحقيقية للمواطن تنحصر مداخلاتهم في تراشق التهم، في مشاهد تثير سخرية التونسيين لكنها في نفس الوقت تزيد من إحباطهم، وتجعلهم يفقدون الثقة في نخبهم السياسية في وقت انقطع فيه الخيط الرفيع بين حرية التعبير والشتم والتشهير. وكان الشاهد لخص الوضع بقوله “إذا أردنا تحسين الوضع في تونس فلا يمكن أن نواصل في هذا المناخ المتوتر، حيث الجميع يسبّ الجميع، والجميع يشوّه الجميع”، مضيفا أن “السياسة في مفهومها النبيل ليست هتك الأعراض وشتم الناس، بل أخذ القرارات لمصلحة البلاد، مهما كانت صعبة”. ثمن الشارع التونسي هذه الخطوة، التي تقول عنها السيدة رقية بن رحومة (45 سنة)، وهي موظفة في مؤسسة خاصة، إنها ضرورية لإعادة الاعتبار لشخصية السياسي المرموق.وتضيف في تصريح لـ”العرب”، “الساحة السياسية انعكاس لحال البلاد ككل، حيث غابت الأخلاق والكياسة وحسن التصرف”. وتتساءل منتقدة “كيف نلوم الشباب في الشارع على تصرفاته غير اللائقة أو حديثه الفوضوي، في حين أن السياسيين لا يتصرفون بشكل لائق قولا وفعلا؟”. رغم أهمية هذه المبادرة من حيث أهدافها الرامية إلى تقويم السلوك الاتصالي والتواصلي في المشهد السياسي التونسي، إلا أنها تفقد قيمتها من حيث توظيفها السياسي من قبل رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ويقول خبراء إن توقيت هذه المبادرة سيء، وكان من الأجدر أن يطلقها منذ توليه رئاسة الحكومة، وليس اليوم فيما المعارك الانتخابية على أشدها استعدادا للانتخابات التشريعية والرئاسية في أكتوبر ونوفمبر 2019. وتشكك أحزاب المعارضة في مصداقية مبادرة الشاهد. وترى أنها مجرد خطوة لمهاجمة خصومه، وتعكس إفلاسه السياسي، وهو المقبل على انتخابات حاسمة لا يملك فيها أوراق رابحة في ظل الغضب الشعبي من سياساته الاقتصادية التي عقدت الأزمة ورفعت الأسعار وضاعفت من معاناة المواطن العادي. والمبادرة عبارة عن مدونة سلوك تضمن حرية التنافس والتنوع وتحدد مبادئ الحملة الانتخابية وتضع ضوابط، فهي لا تسمح بالتشهير بالأشخاص مثلا. وهي من تقاليد السباق الانتخابي في تونس وسبق أن اعتمدت في انتخابات 2011 و2014. خطوة إيجابيةأعرب حزبا الائتلاف الحاكم في تونس (حركة النهضة وحزب نداء تونس) عن تأييدهما لهذه المبادرة. وقال القيادي بحزب نداء تونس مراد دلش لـ”العرب” إن هذه المبادرة مهمة في هذه الفترة الصعبة على كل السياسيين لتنامي الاحتجاجات الشعبية. ويعتقد دلش أن السياسي التونسي بحاجة إلى العودة إلى الموقع الريادي وهو يتطلب مناخا سياسيا مستقرا قائما على أسس أخلاقية وبرامج. واعتبر أن هدف المبادرة هو تجميع قاعدة سياسية تتفق على منافسة انتخابية شريفة. بدوره، أعرب عبدالحميد الجلاصي، القيادي بحركة النهضة، عن تأييده لإطلاق ميثاق أخلاقي سياسي. ووصف المبادرة، في تصريح لـ”العرب”، بأنها “خطوة إيجابية”. وتوقع أن يتفاعل معها عدد من الأطراف “العقلانية بشكل إيجابي بغض النظر عن الجهة الداعية إليهاويعتقد محللون أنه من ناحية المبدأ يبدو إطلاق ميثاق أخلاق سياسي فكرة إيجابية وتحمل نبرة تصالحية، ومن المفروض إنجاحها من مختلف الأطراف السياسية والإعلامية تجنبا للانزلاق في خطاب العنف والدخول في تصفية حسابات لا تراعي مصلحة المواطن. ويعتبر الأكاديمي والمحلل السياسي عبداللطيف الحناشي أنها مبادرة جيدة أمام ما تعيشه تونس من حالة احتقان سياسي. ويضيف في تصريح لـ”العرب”، “نحن بحاجة إليها خاصة وأن تونس على أبواب انتخابات من شأنها أن تسهم في تهذيب الخطاب السياسي ما يجنب الأحزاب عزوفا عقابيا”. لكن يصعب تطبيق هذه المبادرة في ظل تشتت المشهد السياسي، وفق المحلل السياسي منذر ثابت الذي يقول لـ”العرب”، إنه من الصعب تطبيق هذا الميثاق لأن توقيت إطلاقه يوحي بحملة انتخابية سابقة لأوانها. ويضيف ثابت “لن يخفف هذا الميثاق من حدة الحملة الانتخابية فمن المؤكد أنها ستكون عنيفة خاصة وأن حرب المواقع على أشدها على مستوى الخطاب حتى بالنسبة للأحزاب التي تتنافس في نفس المربع الأيديولوجي والسياسي”. ويرى أنه “من الصعب أن يطبق محتوى المبادرة ويحترم رغم أنه من المتوقع أن تبدي كل الأحزاب استعدادها للانخراط في هذه المبادرة.. هذا ليس واقعيا فالقصة في كيفية إيجاد ضوابط قابلة للتطبيق”. صنفت الأحزاب المعارضة مبادرة الميثاق الأخلاقي في خانة الحملة الانتخابية للشاهد. وشكك المعارضون في أهدافها ومصداقيتها. ورأوا أنها تخدم طموح الشاهد الشخصي أساسا؛ وهو، بإثارته للميثاق الأخلاقي يلهي الناس عن الأزمة الحقيقية وهي اقتصادية بالأساس، فيما يريد أن يروج أنها أزمة سياسية وأن الأحزاب المنافسة تتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع اليوم. إفلاس سياسي”.لا يرى القيادي في التيار الديمقراطي محمد الحامدي، أن هذه المبادرة “تحمل دلالة كبيرة وأنها تستهدف المعارضة وأساسا حزب التيار الديمقراطي”. ويتساءل الحامدي هل أن استغلال الشاهد لصفته كي يدخل في حملة انتخابية لصالح حزبه وضد الأحزاب المنافسة يعد تصرفا أخلاقيا؟ ويتابع “هل أن استغلال موارد الدولة في معركة جزئية حزبية أخلاقي؟”. ويؤيد الحامدي الآراء التي اعتبرت أن كلمة الشاهد الأخيرة هي تلميحات فضفاضة يستهدف بها المعارضة حين اتهمها ضمنيا بالتخاذل في التعاطي مع الفساد في الحكومات السابقة، واصفا المبادرة بأنها “مجرد فقاعة إعلامية أطلقت في سياق حملة انتخابية”. ويقول متوجها للشاهد “قبل أن تتحدث عن أخلاقية الخطاب السياسي نريد أخلاقا في تحييد مؤسسات الدولة عن الصراع الحزبي”. ويتسق رأي الحامدي مع رأي عمار عمروسية، القيادي في الجبهة الشعبية، الذي يرى أنه في الوقت الذي من المفترض أن تعمل الحكومة على إنقاذ البلاد من حالة التقهقر، يروج لمصطلح شعبوي لا طائل منه. ويشير عمروسية، في تصريح لـ”العرب”، إلى أن الميثاق مجرد كلام ووعود كما أنه يغالط التونسيين حين يتهم الأحزاب بالانشغال في الانتخابات في حين يقوم بحملة انتخابية مبكرة حين ذكر اسم حزبه في كلمته الأخيرة التي ألقاها. ويتسق موقفه مع المواقف القائلة إن المبادرة، وإن كانت هامة من حيث المبدأ، إلا أنها مجرد حملة انتخابية ومحاولة لتسجيل أهداف ضد خصوم الشاهد السياسيين. وتساءل كيف يتحدث الشاهد عن الأخلاق السياسية في الوقت الذي تحيط بحكومته شبهات فساد؟ ويشكك المراقبون في هذه المبادرة خاصة وأن حكومة يوسف الشاهد سبق وأن أطلقت مبادرات وحملات ضد الفساد والمحسوبية لكنها ظلت شكلية واتهمت بالانتقائية.
مشاركة :